دُموع الجيوكُنده

رواية لنادية شكري

Nadia Shokry
100 min readApr 7, 2014

ليس بوسعك أن تحزر قط، أي طريق تسلك و أي طريق تحاذر، وشيئاً فشيئاً تسلبك المدينة يقينك، وحين تكتشف انك كففت حتى عن الأمل باحتمال الألم، فانك تسعى عندئذ لملا الفراغات الشاغرة بالأحلام.

خواطر قليلة طفولية وحكايات لتبقى مستمرة

من رواية “في بلاد الأشياء البعيدة”

بول اوستن

إهداء إلى وحيدتي الجميلة.. رانيا

يا الله!!

أرضٌ غير الأرض تلك التي تحتضن قدميّ المتعبتين في سيري وحدي، يصحبني ظلي. كيف نبتت كل هذه الوردات الصغيرة حولي تملأ المكان؟ سيقانها تتمايل في لطف وعذوبة وكأنها تعيش طقسا من طقوس التزاوج، ألوانها الشفقية تنعكس عند اهتزازاتها الرقيقة فوق ملامحي في ضعفٍ صوفيٍِ طاغٍ. أنّى لي بهذا الجلباب الأبيض الشفاف؟ أين أسير بهذا الرداء الفضفاض، يتخلله الهواء محملٌ بروائحٍ عطريةٍ منسجمة لم أتشمم مثلها من قبل؟

لم أمنع الهواء عن مداعبتي بإصراره علي رفع جلبابي حتى وجدتني أقف كما أوضعوني حجر أمي عند ولادتي.. سيقاني الطويلة تحملني مبتهجة.. حُليقات شعري تدور في دوائرٍ لانهائية تُبارك بهجتي، تهفهف فوق أطراف أذني فتصلني أنغاماً.

قوسُ قزحٍ يعتلي السماء في شوقٍ طُفُوليٍ بهيج، يتملكها، يسكب ألوانه عند نهايات أطرافها في زهوٍ فُحوليٍ ماجن، طغت ألوانه علي كل ملامح المكان فاختفت هامات البنايات ثم ضاعت ملامحها أمام انبثاقِ فورة الألوان المتداخلةِ تلك.

يا الله!!

أطير مع الهواء لثوانٍ ثم أحط، وأطير ثانية وأحط وقد تفكك جسدي وتثاقلت بعض أعضائي. الخضرة القطيفية الوثيرة تحتضن قدميّ في مداعبةٍ تُذهلني. ليست هي الأرض التي أعرفها من قبل، لم تكن مفعمة بكل هذه الحياة.. لينة، أحس بمسامها تتفتح تحت أصابعي بعد أن ارتَشَفَت من حبات المطر حتى الثمالة. صهدٌ يلفحني رغم الهواء. شيءٌ يفعل فعله بي، يأتيني هذا الشعور بلذة فتية. من أين يأتيني ولا يوجد غيري بالمكان؟ وجه مريم ارتسم أمامي فجأة بعرض السماء، تتبسم.. في سماحة مكر طفولي خجلان يطل من عينيها النورانيتين.

استيقظتُ.

كان المطر يتساقط بميلٍ حاد فوق حواف نافذة الحجرة. فتحتُ عينيّ يغالبني نعاسٌ حالمٌ مريح.كان لا يزال للّيل بقية. وجدت أصابعي تتحسس صدري، وشذي الورود شفقية اللون يملأ الغرفة بأريجه، يتجول حراً داخل بوابات أنفي، يُدوّخ رأسي، ملأتني رغبةٌ عاتية كالأمر الإلهي في التفاعل مع هذا المهرجان المقدّس فسرى الخدر في جسدي.

كان يرقد بجانبي يغطُ في نومٍ عميق. كاد كفي أن يمتد إلي جسده لكني تراجعت وأنا أدور في حيرة تجاربي السابقة معه. أتوه بين الرغبةِ في الفعل — تلك التي تسيطر عليّ- والقدرة علي إتيان هذا الفعل. الخوف من تكرار محاولاتٍ فاشلة ذقت مراراتها مرات عديدة من قبل يرمي بي في حالة من الأسى، يتفرع الإحباط حولي كنباتٍ متسلق يخنق حلمي ويذهب برغبتي بعيداً. لكني لا زلت مدعوة للمشاركة. المطر تتزايد زخاته وكأنه تحريض كونيٌ باسمٌ جرئ: “لا شيء يهمك.. هذه إرادتك…حقك…رغبتك”. مددت كفي، لمستُه، تحسستُه في حذرٍ في البدء فانكمش في جوف الأغطية الصوفية. لا أدري كيف يتحمل كتفاه كل هذه الأثقال في حين أرقد أنا بلا غطاء، يستدفئ جسدي من الصهد الصادر عبر مسامي يضيء ظلام الحجرة يطمس معالم طوبة، خصوصاً في أمسياته.

أرخيتُ جفنيّ و أنا بين الحلم واليقظة، طوقتَهُ بذراعي في ليونةٍ ناعسة. اقتربتُ منه بكل جسدي وراحت أصابعي تعبث بخفةٍ تحت ملابسه.. أريده. الإحساس بالعدالة يملؤني، إلي متي يمنعني الخجل عن ممارسة الحياة، مطالبتي بها؟ سَكَتَ غطيطه لثوانٍ. احتضنته. أدار ظهره ناحيتي، دفن رأسه تحت الوسادة فلا يصله همسي.

سكن المطر في تراجع تدريجيٍ أسيان كما سكن شوقي علي مذبح مواتٍ لم تُجدِ معه محاولاتي السابقة. مَلأَني يقينٌ أننا نقيضان، حياة وموت، يقظةٌ مشتعلةٌ راغبةٌ متوهجة ورمادٌ ميتٌ باردٌ كئيب.

جلستُ في برودِ أعصابٍ مفاجئٍ كأن شيئاً لم يحدث، يستجمع عقلي شرائطه وأتُوه وسط أسئلةٍ لا إجابة لها. ندمٌ من نوعٍ خاص يدعو رأسي أن تخرج من أحلامها وأشواقها به وبالناس وبالأشياء. ثقةٌ تملؤني تدعوني أن أهربُ بلا عودة. أتذكر أيام زواجنا الأولى حين كان يحلو له أن يرقد فوق صدري، يشعر بالراحة وكأني أمه. أين ذهبت مشاعره؟ متى ماتت رغباته المشتاقة حتى في أن يرى لنا ابنا، قائداً لأبناء جيله، يرسم له الكاريكاتير ويخطُ له اللوحات التي سوف تملأ براح الجامعة؟

كيف تمنيتك وكأنك آخر الأمنيات والأشياء الجميلة؟ آخر الأحلام والأشواق ونبوءات المستقبل؟

يا الله!!

تكاد أجزائي أن تتوحد أمامي للمرة الأولي، أمسح بذاكرتي نثار الأيام والسنين الطويلة الماضية، وأسأل نفسي في دهشة كيف مرت عليّ كل هذه السنين؟ كيف يمكن أن يسرى الدمع داخل جسدٍ لا يشتاق؟ هل الطموح ممكن أن تغتاله يوماً نفسٌ خَرِبة؟ كيف مات كل هذا الحب؟

راح عني كل الدفء وهاجمتني برودة إصطقت لها أسناني. كادت أطرافي أن تتيبس. نهضتُ أُلَملِمُ بقايا نفسي، حملتُ سجائري، وانتزعتُ أقدامي من الغرفة بصعوبة، وفي عجلة صفقت بابها خلفي فبدا التصدع واضحاً في الجدران.

تحت زخات الماء الحار وقفتُ.. علّه يطفئ اشتعالي، يخفف سأمي، يشغلني عن الإحساس بعدم الجدوى. أقف ساكنة، أغمض عيني في حيادية وكأن شيئاً لم يحدث.

دمعي الحار أحسسته رغم حرارة الماء الذي يحاول تخفيف ألمي وندمي معاً، يسيطر عليّ حس بأنني علي وشك أن أتقبل العزاء. بعد قليل أحسستُ بفضل الماء الحار.

جففتُ دمعي ومائي ودخلتُ حجرتي. أشعلتُ سيجارة.. لا يهمني حتى لو قتل الدخان جنيني. جلستُ في مواجهة الصورة التذكارية التي أخذها لنا أحد الأصدقاء عندما كنّا معاً في الجامعة. ابتسمتُ في إعياءٍ وأنا أتطلع في ملامح وجهينا بالصورة، مزيج من القلق والتفاؤل يفترش الملامح، بريقُ العينين ساطعٌ كالحقيقة المجردة وإبتسامته الباهتة تفترشُ شفتيه “لزوم الصورة”.. إبتسامة مصطنعة راحت بمجرد أن ضغط حامل الكاميرا على زر التشغيل. كيف لم انتبه؟ ألأنني كنتُ أعشقه عشق أُمٍ؟ أحبه حبي للوطن وقضاياه؟ هل تختلف رؤيتنا للأشياء بمرور الوقت؟ أكيد، لكن ضبابٌ من نوعٍ خاص يغطي على الرؤية أحياناً فلا ترى العيون إلا ما تريد أن تراه وما يأمل العقل في تصديقه.

ابتسمتُ للصورة فوجدتني في الأيام الأولي لدخول الجامعة، مفرداتها وأدائات أيامها حين كنّا معاً، أنا وهو وزملائنا وحركة الشارع الساخنة.. تاهت رأسي بين أروقة الحرم الجامعي.

******************

أكتوبر 1972…

عبر البوابات الفسيحة للجامعة كنتُ أدخل حلمُ أحلامي، يتقافز قلبي أمامي مع خطواتي المتسعة الوجلة، يطالعني الصقر الفرعوني، يحتضن مسلته المصغّرة، يقبض عليها من الجهتين. مخالبه الرقيقة تلامس تلك الأحرف الصخرية البارزة، يصفّق بإحدى جناحيه في الهواء، يهتز في مكانِه وكأنه يقفُ فوق الجمر. لكنه أشار ناحيتي بمنقاره فوصلتني كلماته: تفضلي يا أميرتي.

احمرار طاغٍ غطى وجنتيّ وأطراف أذني، أقوس ظهري في مشيتي قليلاً، تلك الانحناءة التي أرثها عن أبي وحافظة أوراقي تساعداني في إخفاء حجم ثديي الكبيرين. غافلتني ابتسامة و أنا أتذكر شقيقة صديقتي حين أرسلناها للصيدلاني في البنايةِ المجاورة لبيتنا وسلمت الرجل الورقة التي أطالبه فيها بوصفة تقلل من حجم الثدي، جاءت الصغيرة باكية، تجري وسلمتنا الورقة عليها نصيحته بأن أمارس الرياضة، وعقّب: إنها نعمة يا سيدتي، قبّلتُ الصغيرة وهي تسردُ دامعة تعليقات الصيدلاني ومساعده.

حشدٌ هائلٌ يتزاحم حول اللوحات التي علقوها فوق الجدران. نقمتُ علي مكاتب التنسيق التي تؤخِّر دخول الفرق الأولي دائماً عن بقية الفرق. تاهت قدميّ وسط الصخب والجلبة، تسمرت عيني فوق أكبر اللوحات، تهويمات دائرية كثيرة تملؤها، متاهاتٍ متداخلةٍ، ألوانَها غامقةٍ خانقة، عيون شخوصها يأسرها تواهٌ مأزوم ينطق بوجيعة الكارثة. وجعٌ يخنق الروح. تراجعَت فرحتي وراحت عيني تبحثُ عن الطيرِ الإله، رأيته يحوّمُ فوقي، يهزُ رأسَه الصغير في تؤدة وهام نحو مسلته ليقف في وجوم.

ضاقت الجدران بمجلات الحائط الو رقية، ففرشوا بعضها علي الأرض، يختلط الشعر بالنثر. المقالات تنتقد كل الأوضاع، أخبار اضرابات الطلبة في لبنان و فرنسا، القضية الفلسطينية وبنود قانون الطوارئ… أحتاجُ عدداً من العيون تحتوي كل ما كُتِب من موضوعاتٍ و أشعار لأسماءٍ كثيرة مثل لوركا وناظم حكمت، نجم ومحمد سيف وسمير عبد الباقي، أحمد عبيدة و زين العابدين فؤاد.

حول البردورات التي تسوِّر حوض الزرع في مدخل كليةِ الآداب كانت دائرة من الطلبة يطوفوِّا في بطءٍ صامتين. علامات الدهشة تعلو ملامحهم وكأنهم داخل أحد الطقوس، أفسحوا لقدمي مكاناً. صورٌ فوتوغرافية كبيرة ثبتوها فوق الأفرخ البرستول. أشلاءُ أطفالٍ وبقايا رجالٍ ونساء ومنازل، الحرائق تلف القرى الفيتنامية بسحاباتها والمدن تبدو قتيلة مهجورة إلا من رجال الجيش الأمريكي والمارينز وبعض المترجمين الخونة. أزيز طائرات الفانتوم يسكن المكان، تتعالى أصداءه الصاخبة حول الصُوَر فترتج نوافذ و شرفات المكان حولي. تقيأَت إحدى الطالبات وخرجت عن الدائرة بينما علا صوت صديقتها: حرام.. ظلم.

انفرَدَت إحدى المجلات بالغرابة؛ رغيف بيتي كبير يتوسط الفرخ البرستول المقوي، ثبّته صاحبه بدبوسِ رسم تحوطهُ من الأسفل كفٌ كبيرة تتفرع أصابعها كشجرة سنطٍ عملاقةٍ عجوز تحاصره من كل ناحية، ويملأ بقية المساحة عدد من الأكف الضامرة الصغيرة التي بدت متضرعة لكنها لا تستطيع لمس الرغيف. يقف بجوارها فتى يحميها، يستند إلي الحائط بظهره متأملاً في صمت الوجوه المارة أمامه وبجوار لوحته، يستمع إلي تعليقاتهم. ملامحه السمراء الرصينة يزيدها الصمت ملاحة. اقتربتُ من اللوحة، ناداه صمتي المتسائل، مد يده يصافحني، دق قلبي… هو .. أكيد.. فأنا لا أنسى الوجوه أبداً. قال: نبيل، ثالثة حقوق، قلتُ: بسمة، أولى آداب.

أخفيتُ ضحكتي وأنا أتأكد من اكتشافي. تلاشى إحساسي بالغربة وشعرتُ أن لديّ أهلٌ هنا، فهو صديقُ خالي سامح، لم أر أيّهما منذ سافر خالي عقب تخرجه من الفنون المسرحية في 1969. كنتُ أنا بالصف الأول الثانوي، تغيّر شكلي كثيراً، تُرى هل يتذكرني؟ سألني رأيي في لوحته وبعد شرحي الخجِل القصير قال: طبعا لازم تكون للوراثة دور. سألني عن أحوال خالي سامح، أخبرتَه أننا لا نعرف أخباره منذ سافر. كان يحملق في وجهي متأثراً قال: تصدقي.. لم أفلح في عقد صداقاتٍ بهذه الدرجة من الحميمية منذ سافر سامح. وحشني جداً. أراه فيك الآن يا بسمة. أهلاً بك معنا.

شدنا صخباً في ردهة الطابق الأول، العلم الأمريكي والعلم الإسرائيلي يشتعلان وسط زخمٍ من الأشواق والأحلام والجدل والتخبط والرغبة في الفهم وفي الصراخ يموج به داخلي. كل هذة الفوضى! بعض المعارك الصغيرة دارت مع رجال الأمن، تشابك بالأيدي والأقدام، ينتشر السباب والصراخ والزعيق، يرد بعض الطلبة علي الإهانات بقذف قطع الحجارة ويفرون ناحية الباب الكبير. ساعدتُ نبيل في خلعِ مجلته سالمةً من فوق الحائط. أين سنذهب الآن وماذا سنفعل؟ أسئلةٌ كثيرةٌ دفعتني. أبحثُ عن الطير الإله. ارتمت عيني عليه يحتضن مسلته، وقبل أن يشدني نبيل بعيداً عن دخان القنابل المسيّلة للدموع كنت أسمع نحيبه.

قبل نهاية الاسبوع كنت أعلق مجلتي الورقية بجوار مجلة نبيل، أسرد فيها المعارك التي دارت علي مدى الأيام القليلة الماضية. عدد رجال الأمن يقارب عدد الطلبة. الجنازير الحديدية وألعاب الكاراتيه أخذ ت تمرح في حرية. جرينا داخل الحرم وجلسنا خلف كلية العلوم نستجمع أنفاسنا، تناول السندوتش مني وانشغل يكتب مقالة الغد التي لمحت عنوانها “لا مساس بأمن الوطن والمواطن” و هي فقرة من خطاب السادات الذي أذيع أمس مساءاً. وانشغلت بجانبه أقرأ الشعر الذي كتبته قبل أن أُطلِعه عليه:

أعلق علي الجدار الجامعي

أوهامي وبراءتي

يتفرجون عليها،

وينتظرون الإجابة، في الأسبوع القادم

يا طير الحب الأوحد

إني منتظر خارج كل الأزمان

خارج كل الألقاب

حتى حين تعود إليّ

تبدأ فيّ الزمن الأول

تغرس فيّ اللقب الأول

أبدأ عمراً أول

يسكن قلب الأشياء.

علي الجدار الجامعي

أعلق سخطي العشوائي،

ما الذي يريده العالم بي؟[1]

هتافات الطلبة يرتد صداها إلى المباني المتناثرة لكليات الجامعة. ألقي نبيل بالأوراق والأقلام في مخبئه السريّ وسِرنا معاً يلفنا صمتٌ جنائزيّ، كآبة تكبر عمرينا تنطق فوق ملامحنا، إحساسٌ بأننا نخوضُ في ماءٍ وهميٍ آسن. لا أعرف ما الذي يحدث علي وجه الدقة. تمتلأ رأسي بالتهويمات وأشباه الهلاوس، جمهرة من الطلبة يفرُّون إلي الباب الخلفيّ، أتخيلهم يخوضون مثلي في نفس الماء الآسن، هباتٌ هوجاء ترسل أصواتهم إلي أذني وكلهم يتلفتون مثلي في شوق.. عم يبحثون؟

هدّأنا الخطى ونظرت إلي نبيل، الحزن يقطر من ملامحه السمراء. رغبةٌ حارقةٌ في البكاء خنقت أسئلةٌ تحيّرني. تساقَطَ بعض دمعي فأمسك يدي بقوة وأخذنا نجري، تتسع خطواتنا، نعبر الشارع عدواً، نوقفُ رتل السيارات من جهتيه، نتصفح وجوه الناس، نستنطق ملامحهم، سرنا في خطواتٍ زجزاجية صامتين، يعلو لهاثينا، نصطدم بأجساد المارة والأشجار وأعمدة الإنارة. يقبض كفي بقوة أكبر فأحس بالتوحد. تغبشت نظارتينا فوقفنا نمسح علي زجاجها. تلاقت عيوننا، لمحتُ حاجبيه المنعقدين في وجوم كما لمح فمي المزموم في صرامةٍ ورحنا في نوبة ضحك هستيرية طفلة. ماذا كنت أفعل لو لم أجده؟

شدّني نحوه بعيداً عن عجلات سيارة مسرعة، فارتميتُ في صدره، ترتج دواخلنا. ضمّني، أحسست بالونس وبأن خالي قد عاد، تشبثَت راحتاه بظهري فتناثرت أعضائي ورأيتها تخرج عبر مسامي. تخففنا حتى من زجاجة الحبر الشيني التي كان يمسكها بيده، فحملنا الهواء إلي أجواء سحرٍ أسطورية لم نسمع عنها من قبل. صعدنا إلى السماوات العليا، نعوم في الفضاء الفسيح، تسبح أقدامنا في خفة بعد أن طالت الأبراج ورؤوس البنايات، ندور داخل فقاعات هواء ديسمبر الباردة. نُدَف السحاب تندي رؤوسنا، تنبسط أساريرنا،

يا الله!!

الدنيا كلها قيض قبضة واحدة. ماذا لو بقينا هكذا أبد الدهر؟

سألني متي يرجع سامح، وقبل أن أردُّ كنا قد هبطنا في اندفاعةٍ مفاجئة.

*****************

أغلق أبي المذياع وهو يهمهم: “نفس الكلام.. أعوذ بالله”، أخذ يكمل إعداد حقيبة سفره وفي طريقه إلي غرفته سمعته يقول: بلاش مدرسة بكرة، المخبرون يملأون الشوارع، لا داعي للمجازفة.

أثناء سفر أبي الكثير لدواعِ عمله، يبيت خالي الوحيد معنا. أحب طريقته في الكلام التي تساعدني في محو الغموض عما يدور من أوضاع اقتصادية واجتماعية وسياسية تمر بها بلادنا. آرائه في السينما والمسرح و حتى في التاريخ الفرعوني وفيما يدور في معهد الفنون المسرحية وما يحدث في الجامعات. أحب طريقته في إغداق جوٌ من المرح وتمثيل النكتة فيتلاشى إحساسي بأنني ابنة وحيدة. يعلو الصخب دائماً عندما نجتمع ثلاثتنا، وبين لحظةٍ وأخرى أسمعُ تعقيب أمي: اللهم اجعله خير. يتهكم سامح عليها: الناس بتخاف حتى من الضحك.. آدي اللي خدناه م العسكر.

كان الإجهاد يستفرد بجسدي، يدق فيه أوتاده، فقد جريت اليوم كثيراً هرباً من ملاحقة الجنود بعدما أخذني خالي معه — لإلحاحي المتكرر- لأرى المظاهرات. قمت كالثملة إلي حجرتي، يغرقني الحس بالإثارة. ألحظ عقلي من بعيد يتوه كمن أحقنوه مخدراً……

صهيل الفرس الذي يعتليه عرابي يصلني حتى الفراش، ألمح من تشبهني وسط جموع النسوة المتشحات بالأسود، تملأ حجرها بالتبن. عينا الحصان غائمتان تغطيهما غلالتان بلّوريتان. المرأة العفيّة التي يفسحوا لها مكانا وسط الساحة ترقب الحصان، تُخرج ثديها الكبير ربما للمرة المائة تلقمه بصبر دءوب، تمسح بيدها بطول رقبته في حنوٍ ولهفة، تتلو بعض آيات القرآن التي اختلطت بصدى ترانيم الكنيسة التي تُفتح نافذة حجرتي عليها. الحصان يحرك رأسه ناحيتها من حين لآخر كطفل، يلوك شيئاً في فمه ببطء ساهماً، ينظر في وداعة إلي الدائرة التي يصنعها الأطفال حوله. يبتسم، تظهر أسنانه الكبيرة ويتساقط الزَبَد علي جانبي فكه الأسفل. يلمح صمت الصغار بعيون مغيبة.

ذؤابات المشاعل الكثيرة المتفرقة التي تحملها الجموع ترسم هالات متتالية حتى قمة الطربوش الذي يعلو رأس الرجل الأسمر قابضا بيَدٍ علي السرج و بالأخرى يمسك قلبه. تُرى ماذا ألّم به؟ ولماذا لا أشم لروث الحصان رائحة؟ الصغار يهشون الهوام عن وجهه بينما يرتشف حليب المرأة وهي لم تكف عن الرَقية حتى أخذت في التثاؤب، حركة ذراعيها تتثاقل عن ذي قبل. الصهد الصادر عن الألوف الواقفة يتزايد.. لا صوت إلا لوشيش المشاعل، والحصان يلتهم التبن في سرعة ميكانيكية مجنونة.

اتسعت عينيّ دهشة، يهزني الخوف من شيءٍ مجهول.. تُرى لم يصمت عرابي بينما الجموع المترقبة تحوطه تنتظر البشارة؟

تمتلئ الدنيا حولي فجأة بالصراخ. من سمح لهم بدخول حجرتي؟ كيف اتسعت جدرانها لكل هذه الأعداد؟ من أين تأتي رائحة الطين؟ الرجال يخبطون فوق رؤوسهم بأكفٍ ضامرة يعوون، يترنحون كالذبائح ثم يجففون أنوفهم بأطراف جلاليبهم في صمتٍ جماعيّ.

ميزتُ صوت النديم الذي بدا عالياً، وحيداً، يصرُخ في الصغار عن بُعد كي يُفسِحوا له الطريق، يشارك في حمل الجثمان، و ينذرهم بوشك انفجار بطن الحصان حزناً علي صاحبه. عقلي يتوه وأنا أرى النعش بطول قطارٍ، تحاول الأيدي المحزونة أن تطوله، تملِّس عليه. هل يحِجّون؟

كانت النساء لا تزال تلطمن الخدود، وصور الزعيم تتحرك في أيدي الصغار. جسدي يتقلب دون إرادةٍ مني، لا أقوى علي فتح عينيّ. صوت أمي يخترق أذني ووعيي، أسمعها تنكر وجودي: ليس لديّ بنات بهذا الاسم، ابحثوا في البنايةِ المجاورة.. لها نفس الرقم مكرر. جلستُ فَزِعة في منتصف الفراش، أتت أمي إلي غرفتي بعد أن شدت المزلاج يسبقها خالي سامح، يلقي ببعض الملابس فوق فراشي، تُسائله أمي في عصبية وغضب: “خلّصوا علي طلبة الجامعة وبيلموا تلامذة المدارس؟ حكومة إيه دي اللي بتخاف من العيال؟”

“البسي بسرعة”، قالها خالي. جلباب أمي الأسود؟ أحسست أنني داخل أحد أفلام الرعب أو الإثارة علي أقل تقدير. شالها الأسود الثقيل ألفُّ به رأسي يدفئني، تتسربل رائحة أمي إلي وجداني كله كلما اقتربت أطرافه من أنفي. أمسكتُ حقيبة اليد الجلدية فجذبها خالي في عصبية و ألقاها بعيداً. سحبَت أمي مزلاج الباب ببطء خلفنا وأوصدته بالمفتاح.

ماذا ستفعل معهم وحدها وأبي مسافر هذه الليلة؟

طمأنني خالي وكأنه سمعني: لا تخافي، أمك جدعة.

حملتُ كل الإثارة معي كما حملتُ نعليّ بيديّ أقلّدُ خالي ونحن نصعد إلى سطح بيتنا ومنه إلى السطح المجاور وأنا أؤكد لنفسي أنني لن أنسى طعم الشتاء، وخصوصاً شتاء 1968.. فأنا أحب الشتاء عموماً برائحة هوائه ونداوته. وقفنا نتسمّع صوت أمي المتوتر المختلط بصوت الجيران وهي تطلب إذن الضبط والإحضار. كنا في الشارع الخلفي نسير عكس الاتجاه، تُرى إلى أين نتجه؟ أخبُّ في الجلباب الواسع، أخاف على أمي لكنّي أفرح بالخروج مع خالي. السماء ملبّدة بغيمٍ غامقٍ كثيف. تتعالى التواشيح التي تسبق أذان الفجر. الشمس تحاول أن تفرش أولى أشعتها، تظهر برأسها كوليد. الناس والهواء والشتاء لهم طعمٌ آخر خاص ورائحة حميمة في ساعات الصباح الأولى.

أفضت بنا سيارة الأجرة إلى قلب القاهرة الفاطمية. أنا وأبي نعشق هذه المنطقة. تتفرع الدروب أمامنا من كل الجهات وتتشابه، نترك باب زويلة ودرب المقشات، ندلف إلى حارة الفُوَطِية. دربٌ ضيق خلف آخر يتلوى، يتصلوا جميعاً من الأطراف بالحارات الترابية التي تتصاعد منها أحياناً روائح العطارة والبخور، وأحياناً رائحة البول. تنتشر البيوت القديمة بمشربياتها التي أصبحت ترابية اللون أيضاً على الجانبين. الماء الآسن من بقايا أمطار الأمس يعكس خيوط الشمس الأولى عبر الفجوات ذات الحواف العالية، يفوح منها رائحة العطن، فأغلق خالي نافذة السيارة.

دلفنا إلى مدخل البيت القديم الذي حدّثني عنه خالي كثيراً من قبل، والذي يعقدون فيه اجتماعاتهم. السلم الخشبي المتهالك جعلني أخالُ للحظة أن البيت سينهار قبل أن نصل إلى الدور الأخير. الموسيقى الكلاسيكية منخفضة الصوت تخلقُ جواً سحرياً جميلاً يصرخ نشازاً مع كل الأشياء المحيطة، يشع نوع من التفرد على المكان. بعض الكتب مفروشة فوق الطبلية. جلست بجوار خالي على الكنبة العربي التي يجلس فوقها القط الأبيض الذي تأمل وجهي سارحاً لوهلة، ثم أكمل غفوته مع عبث أصابعي في فرائه السميك. أمسكت بديوان محمود درويش أتصفحه فقد نبّهني خالي أن أنصت لمناقشتهم في هدوء أو أن أتناول أحد الكتب أتصفحها حتى يأتي موعد انصرافنا ويؤمن هروبي إلي أن تهدأ الأحوال. وقبل كل شيء ممنوع أن أختلي بأحد أياً كان، ورفض التوضيح.

الحرارة الصادرة عن جسدي تتحدى جبروت طوبة. خلعت جلباب أمي الذي ارتديته فوق ملابسي، وجلست على الكليم الصوفي الخشن. تركتُ الكتاب بعد أن احتدّ النقاش لدرجة أني لم استطع التأكد ما إذا كان جدلا أم شجاراً، أنظر للوجوه، أتصفحها، أفتش عن سبب السباب الذي غطى علي كل شيء.

ماذا يفعلون؟

أتوه مرتين بين ما تفعله الحكومة و بين ما يفعلونه. بعد قليل نزل أحدهم صافقاً الباب خلفه وسمعت أحدهم يقول: انهزامي ابن شرموطة. فهمت انه مختلف مع الجميع حول دخول اليسار الاتحادات الطلابية كي يكتسب عملهم الشرعية ويستطيعوا إصلاحه والعمل وسط الطلبة. جلس خالي علي الأرض يربت علي كتفي يطمئنني فسألته همساً عمّن نزل غاضباً فأخبرني: صاحبنا.. شاعر.. مجنون. وأشرت إلي من يجلس بجوار القط قال: شاعر عامية. وأشرت إلي شابٍ نحيل قال: كاتب قصة ومترجم. سألتُ من يجلس عن يساري: هل خالي يكتب الشعر أو القصة؟ أشار برأسه نفياً وهمس: إن سامح ناقد مبشِّر في دنيا الأدب الثوري.

تخيلت أن يوسف إدريس، بصفته كاتبي المفضل، سوف يدفع الباب ويدخل. امتزج صخب الشباب وخلافاتهم بصخبٍ آتياً من البيتِ المجاور فتخيلت أن نجيب محفوظ والحكيم والعقاد يجلسون في البيت المجاور يتشاجرون أيضاً.. كنّا نحتسي الشاي الذي عمله خالي منذ قليل، وعندما أدركت أن السبب وراء صخب الجيران كان علي من يدخل دورة المياه قبل الآخرين، لم أتمالك نفسي من الضحك.

*************************

حملة الاعتقالات الواسعة شملت أغلب كاتبي المقالات من الطلبة، سواء من هم أعضاء في الاتحادات الطلابية، والشعراء وبعض أساتذة الجامعة ومن ناصرهم من الصحفيين والناصريين والمحامين القوميين والجماعات الإسلامية..علي اثر هذا كله خرجت التظاهرات إلي الشوارع. الهتافات داخل الجامعة تشتد جرأة والشعارات تنادي بالحرب علي إسرائيل لاسترداد الأرض وتطالب بإطلاق الحريات والقيام بالتعبئة الشاملة لتطهير أرضنا.

الجامعات كأنها مؤتمرات مفتوحة. قوّات الأمن تملأ الشوارع وتحاصر الجامعات، المخبرون ينتشرون علي المقاهي وداخل وخارج المساجد..كيف تستطيع الحكومة دفع رواتبهم؟

قرر المؤتمر المفتوح بالجامعة الاعتصام داخل حرم الجامعة..أمعقول أن نجلس ونبيت ليالينا القادمة بقصر الزعفرانة؟ ندخل الحمام الذي كان يستخدمه الخديوية الاسبقون؟ حفرتُ علي الشجرة الكبيرة المجاورة لباب القصر تاريخ اليوم: 29 ديسمبر 1972.

الهواء يصفر غاضبا يكاد يقتلع جذور الأشجار المحيطة بالقصر الذي أصبح مقراً لنا، فقررت الحكومة إغلاق الجامعات المصرية، كل الجامعات، كما قرروا إغلاق المدن الجامعية، وطاردوا ساكنيها المثقلون بحقائبهم وبالحيرة فأين يذهبون الآن وقد انتصف الليل؟ وأغلبهم من القرى والنجوع والمدن الصغيرة التي ليس بها جامعات. أحد طلاب المدينة طالته أحد الأحجار فأصيبت رأسه وهو يجري في اتجاه الحرم، يتدفق الدم يغطي عينه، لكنه استطاع أن يقذف لنا بحقيبة تمتلأ بالجوارب الرجالية التي جمعوها، سواء القديمة أو الجديدة، نحمي بها أنفسنا بلفِّها علي الأكف نتلقف بها القنابل المسيلة للدموع والتي كنا ننجح أحياناً كثيرة في المسك بها وإلقائها مرة أخرى علي الجنود، طوال إحدى عشر يوماً هي عمر الاعتصام. الجند يحاصرون الجامعة من كل جهاتها. ننتشي ونحن نسمع اصطكاكها ببطن الدروع التي يشهرها الجند في وجه هتافاتنا، نشعر بالزهو ونتوه عشقاً لحالة الفعل تلك. سيل من قطع الحجارة لا يزال يرتد إلى بطن الدروع والخوذات. شرنقة دخانية تلف شارع الخليفة المأمون والشوارع المجاورة، هتافات أهالي منشية الصدر المواجهة لمحطة المترو تصلنا. امتثل الجميع ولم يعد أحدنا يدعك عينيه من جرّاء الدخان الكثيف الحريف المتصاعد في غلّ من القنابل الدخانية. السحب المنخفضة تتزايد كثافتها، تكتحل السماء بالأسود رغم الإضاءة الشحيحة الصادرة عن بعض أعمدة الإنارة التي تنتصب في الشوارع الداخلية للحرم. أصواتنا تصل إلى الجند والرتب التي ترتص بطول الأسوار الأربعة للجامعة. الطير الإله يحوم فوقنا منزعجاً يباركنا في قلق ولا يدري أين يحط.

دخلنا القصر المقر وأحكمنا المتاريس خلف الأبواب الكثيرة بالمقاعد الجلدية العتيقة الضخمة، وعبر البوابة الزجاجية الكبيرة للقصر نلمح الجند والحرس عن بُعد. أخذ ت الجلبة في الشارع تقل رويداً، جلسنا على الأرض لحظات قليلة نحصي عددنا، فلم نجد طلبة الاتحاد ولا الناصريين الذين لم يوافقوا أصلاً على قرار الاعتصام مثل بقية الجماعات الإسلامية. الأجساد المتعبة والأعصاب المتوترة والأحبال الصوتية المبحوحة دعتنا إلي صمت شبه جماعي. احتوانا دفء نسبي وعثر كل منا على مكان آمن يحتويه، يخبئ مخاوفه الخاصة وتخميناته المتضاربة. الستائر الثقيلة العامرة بتراب دقيق يحمل رائحة القِدَم، أخذنا في خلعها نستدفئ بها. الغرفة التي خصصناها للبنات امتلأت بالطالبات وبعض الصحفيات بينما حشر الشباب أنفسهم في غرفة واحدة طلبا للدفء، ولا أدري كيف تحتوي حجرة أكثر من أربعين نفساً. عندما أخذ ت مكاني فوق المقعد الكبير، لفيت رقبتي بكوفية نبيل. تكوم جسدي وتثاقلت جفوني. صوت من داخلي يهتف: ما أحلى النوم حين يجيء دون استدعاء، كلما جذبت احد أطراف الستارة الثقيلة ينهال التراب الناعم يغطي ملامحي ، لكن عقلي لا يهتم بالنظافة أو التراب كان يشرد مني وعن بعد ترسل الرياح لنا عبر المذياع الذي جلبته معها أحدى الصحفيات صوت عبد الوهاب:

حب الوطن العربي أمانة

فرض وعهد علي الملايين

كل ما نوهب خطوة جديدة

نحمي شرف المجد سنين

وحياة حبك لجل عيونك

يا فلسطين راجعين راجعين

أثناء نومي دخل جان جاك روسو إلي كافتريا الحقوق، كان يبحث عن “ما روا روباسبير”، الذي كان ينزوي في أبعد أركانها يفترش أمامه أوراقا كثيرة، ترقد ريشته في جوف المحبرة، اقتربنا منه نبيل وأنا وبعض الزملاء فقام الرجل وصافحنا واحداً فواحد ثم أشار إلي روباسبير بأدب الفرسان أن ينضم إلينا. تحلقنا جميعا حوله، نبيل يعبث بخصلات شعري وروسو يبدي إعجابه بكوب الفخار الشرقي المُجلز وبمذاق المشروب التركي الساخن الذي قدمناه له. وقفنا ننصت، أحدهما يتحدث وينصت الآخر. يسأل واحد ويجيب الآخر باهتمام. سجَّل روسو بعض الأرقام بالأحرف اللاتينية يسأل رأي ما روا، يفترش الود والجدية الملامح. في نهاية الحوار والنقاش اتفقا علي ترتيب روسو لفصول كتابه “العقد الاجتماعي”. اقتربت منه اسأل: هل تقرض الشعر أو تكتب القصص القصيرة؟ هز رأسه نفياً، في لطف وهو يقدم لي لفافة من التبغ أكمل لفها بنفسه لتوه ثم قبَّل يدي وشكرني علي القهوة. يا الله ..واحد يتكلم وينصت إليه الآخر، احترام متبادل. تُرى من الذي يعلمهم هذه اللمسات الإنسانية المتحضرة؟ صوت النديم كان عالياً ملفتاً لنظر الرجلين، وعندما اقترب منَّا اتضحت كلماته. أخذا يرددا وراءه: “الله الله يا بدوي جاب اليسرى”. كانا ينطقان الراء غينا وأنا أضحك، ذراع نبيل فوق كتفي نرسم علامة النصر بأصابعنا ومشينا حتى نهاية الردهة المواجهة للكافتيريا وأمامنا يقف الصبي الصغير مرتدياً لباس الكشافة يخبط فوق جلد الطبلة المشدود دقات غليظة بطيئة منتظمة، يئن ظهره من ثِقَل البوق النحاسي اللامع الذي علقوه حول عنقه ينفخ فيه يحذر الجموع إذا ما ظهرت فصائل الجيش مرة أخرى. أجذب الغطاء فأغرق أكثر تحت كومة التراب التي بدأت تطبق علي صدري. تتقلقل حركتي وأنا أتابع الولد الصغير حامل الطبلة والبوق يجري في البعيد..خطواته مثقلة.. الدقات تتسارع أكثر وأكثر، نَفَسِي بات أضيق، صدره النحيل يتصدى لطلقات البنادق القديمة من الجند النظاميون. الهواء يرسل إلينا رائحة دماءه مختلط ة برائحة البارود. السعال الخشن يتناثر في أروقة القصر المقر، يتكاثر في المكان، تترامى أصداءه والرطوبة تزاحم الإعياء وتخترق العظام. قوات الشرطة تسوِّر الجامعة، الهراوات والدروع والخوذات المعدنية، البيادات الثقيلة والستر الصوفية السوداء كلها تصطف حول الجدران الخارجية. الشمس تتدلل تترك الحلبة للسحب المنخفضة بدرجات الرمادي تبرقش السماء. دخان منتظم الشكل بطول السور ينطلق من القنابل الدخانية الخانقة، شرنقة طلسمية أزادت رأسي عتمة. صوت شادية المتوسل: قولوا لعين الشمس ما تحماشي أحسن حبيب القلب صابح ماشي”. كيف لم أفكر في أمي طوال الاسبوع الفائت؟ مسكينة يا أمي.. الأمهات مخلوقات تعيسة. رأت أمي أشياء كثيرة كلها ألم ومرارة، تحمَلَت فراقي وغياب سامح شقيقها الوحيد ووحدتها أثناء سفر أبي. ليتها بجواري الآن أرتمي في حضنها، أغوص بين ثناياه الدافئة أعود إلي ما قبل الفطام. منذ سافر سامح هرباً من مضايقات الشرطة، تبكي حين تكون وحدها بالبيت. لم تسمع صوته منذ أربعة سنوات، تحترف القلق مرغمة ولم أرها سعيدة إلا في الأمسيات القليلة التي يؤنسنا فيها خالي. لازلت أتذكر هلعها منذ أقل من عامين.كنت برداء المدرسة حين اهتزت الصورة فوق شاشة التليفزيون فجأة. أخذ أبي يغير اتجاه الهوائي الداخلي، يحرك الجهاز نفسه، يخبِّط فوق أحد جانبيه، يجلس لثوانٍ علي طرف الكنبة الاستديو المواجهة للجهاز، يعتمد بكوعيه علي ركبتيه ثم يقف متوتراً حائراً يعيد محاولاته في صبرٍ غريبٍ عليه، يُشعل سيجارة أخرى، ولما فشل في استنطاق الصورة أخرَسَ الوشيش، يتصنت بجدية إلي أجهزة الجيران في تلك البيوت التي تكاد تتلاصق وفجأة تعالى صوت المقريء بتلاوة من صورة الرحمن. تلاوة جماعية.. أحسست أننا جميعاً داخل سرادق كبير للعزاء، فيمن يأخذ الناس العزاء؟ نطقت تكهنات أبي “ربما قتلوا أبو عمار استكمالاً لأيلول الأسود” بعدها قال بصوت مستريب: أو رأس كبيرة وقعت”. وقع قلبي، من؟ جلسَت أمي محل وقوفها في بطء كبناية شامخة تتصدع. جلس أبي بجوارها يغطيه الشحوب.. دهر من القلق المقبض والخوف من المجهول، غطى علينا إحساس بان أحد يتربص بنا، تكهنات يثقلها العجز وعدم الفهم أو الاستيعاب، أخماس نضربها في أسداس وسمعت أبي يسب الدين، يكاد أن يطفر الدمع المخنوق من كل وجهه وليس من عينيه. يتحرك في عصبية فهد جريح وفاض قلقه علينا حتى توقف المقريء عن التلاوة التي خلنا أنها لن تنتهي أبداً. بعد دهر خارج كل الأزمان أعلنوا أن الفقيد كان رجلا من أعز الرجال. أسفل بيتنا، ماجت جثة أسطورية تخفي كل أثر للميدان والشوارع الجانبية المتفرعة عنه أمواج بشرية تزحف تبكي تعوي، حلماً آخر أم كابوس؟ أقف حيرى أحتضن أمي بعيني، أُخفي إشفاقي علي أبي الذي يحس بالغدر وبالصدمة. اتسعت عيناه الصامتتين فرأيت لونهما العسلي واضحاً. قامت أمي تلحق بنا إلي الشرفة، تقبض السور الحديدي بأصابعها العشر، فهي تعاني من فوبيا الإرتفاعات، تدفن ذقنها في كتف أبي وتسأل عن الرجل الذي كان ينعى أعز الرجال. وسمعت أبي يقول: النائب يا عواطف.. النائب اللي عليه الدور في الترقية، هي المشرحة ناقصة قتلى؟. ويجهش أبي بحرقة مختبئاً خلف جلبة الشارع وشدة الألم، يقول أشياء كثيرة لا أفهمها. تسمرت أقدامي في الأرض، أزرع عيني في الوجه المكموش الباكي، أُميز كلماته بالكاد وسط الصراخ، أسمع لومه: إخص عليك يا جمال مقدرتش تنسى إنك عسكري. مكانش العشم يا ناصر.

كيف لم أفكر في أمي طوال الأيام السبعة الماضية؟ حتى الآن تثقل الحرارة المرتفعة رأسي. أحاول أن أتابع ما تحكيه لنا “صنع الله” تلميذة الزراعة عن مظاهرات 68، أسمع بما تبقى لي من حواس يقظانة وأنا شبه نائمة تضيع مني أغلب الكلمات عن تلاميذ المعهد الزراعي الذين عقدوا اتفاقاً مع تلاميذ الثانوي الزراعي والثانوي الأزهري.. اتفقوا علي الالتقاء صباحاً أمام عزبة الحريري ناحية كوبري السكة الحديد بالزقازيق وعند الظهر كان الحشد عظيماً واتجه الجميع إلي مقر المحافظة، كل هذا حدث بعد أن أذاع صوت لندن أسماء الضحايا من شهداء الطلبة الذين وقعوا في اشتباكات قوات الشرطة مع بضع مئات من طلبة صغار لا يحملون سوي كل الحب لبلدهم. كتبوا اللافتات وسألوا المحافظ في صوت واحد: لماذا مات زملاؤنا؟؟ هم يكررون الهتاف والسخونة تلهب روحي، تسرق الوعي مني، تتضخم الأحرف حول أذني كغريق ينفق ويضيع أغلبها. هل أعوم مرة أخرى داخل السائل الامبينوسي؟ هل لا زلت وأنا علي حجمي هذا أتقوقع في كيس الكوريون؟ مددتُ يدي أبحث عن الحبل السُرِّي فوقعت علي الأرض بجوار الدكتورة سوزان تلميذة الطب وسمعتها بعد أن كفوا عن الضحك: بعد المُسَكِّن ومخفض الحرارة سوف تتحسن.

في الصباح رفضوا خروجي معهم إلي صحن الجامعة أشارك في الهتاف وخصوصاً نبيل الذي أخذ يقنعني بعدم القيام بأي مجهود وناولني كشكوله الخاص: خليه معك. وتحسس جبهتي: خللي بالِك من نفسِك علشاني. كانت سامية توزِّع وجبة الصباح من رصيد الطعام الذي سربه لنا طلبة المدينة الجامعية. أحكَمَت الستائر المتربة حول جسدي: كي تعرقي وتتعافي. بعد أن هدأت الحركة داخل القصر المقر، رحتُ أتصفح الكشكول وصورة البيان الخارج عن الاعتصام وجدت اسمي علي ورقة. رحتُ أقرأ:

زميلتي ورفيقتي الأعز..بسمة

سأكون كاذباً كبيراً لو قلت أنكِ تشغلين قدراً معيناً من حياتي كبيراً أو صغيراً إلا إذا وضعتِ حبي لك كشيئاً ما قبالة أشياء أخرى أؤمن بها في انفصال عنها. إن كل ما أحس به وأنفعل له ويملأ كياني، الحب، الحرية، الرفض، الشعر، الرسم، التمرد، الثورة.. كل ما أواجه به العالم وكل ما يواجهني به…

هل حرارتي مرتفعة إلي هذه الدرجة؟ .. وهمٌ هذا الذي أقرأه أم حقيقة؟ أسمع سامية تصرخ فرحاً: اسمعي ياستي، صوت لندن أذاع أسمائنا وعمال حلوان رفضوا فك إضرابهم واعتصامهم إلا إذا رفعت الشرطة حصارها عن الجامعات المصرية. ثم مدت لي يدها ببيضة مسلوقة: كُلِي لتشاركي في الهتافات وتأليف الشعارات. أخذت أُكمل:

إن الإحساس بعذابات المضطهدين، مواجهة الشر، رفض الظلم، الرغبة في العطاء والارتباط بالثورة كل هذا يا عزيزتي قد تكفَّل الحب ليكون مقياساً ومعادلاً صادقاً له. كانت دقات قلبي تهز الأرض تحتي. تأكدت أنه ليس زلزالاً الذي يضرب أرضية القصر الخشبية. تيبست أصابعي علي الورقة. عدلتُ وضع الستارة المتربة فوقي وأنا أرتجف وتصرُ عيني المأخوذة علي تكملة القراءة بينما تدس سامية بيضة أخرى في فمي.

رفيقتي بسمة..

لا يسعني هنا إلا أن أردد وبأعلى الصوت: لقد اكتشفت الحب. وكأني أعي فجأة سر وجودي. لم أصدق قبل أن أراك أنني سوف أحب وأنني قادر على أن أتعرف علي نفسي عن قرب وأحبها ولا أحس بالضياع.

بسمة..

إن تاريخ بلادنا يحمل في قلبه كل من أحبها ويعمل من أجلها، من أجل ضحكات أطفالها. إنها قادرة يا حبيبتي علي كشف زيف كل من عشق جسدها كي يخفي ضعفه، استسلامه، نهمه للاغتصاب.

إنني رفيقتي الجميلة أريد أن أكون جديرا بهذا الحب بالصدق معك ومع نفسي.

نبيل.. 6 يناير 1973.

مزقتُ الصفحة بحذر من الكشكول، و دسست الخطاب تحت القميص والبلوفر حتى لا يراه أحد وأخذتُ أقلِّبُ في بقية الصفحات أقرأ الشعارات التي ألفها أمس:

“يا حرية فينك فينك حطوا السجن ما بيني و بينك”،

“هو بيلبس آخر موضة وإحنا بنسكن عشرة في أوضة”،

“أنت إن سكت مت.. أنت إن نطقت مت.. فقلها ومت”

خطه الجميل يرتسم أمام عيني حتى وأنا أغمضهما، أحفظه كأم تحفظ ملامح وليدها. أزحت الأغطية التي راح لون بشرتي من أتربتها القديمة وأنا أروح بالكشكول علي وجهي طلباً للهواء بعد أن أصبح داخلي حارا كأزانٍ يغلي. الفتى الأسمر الذي عشقت ملامحه وتمنيته منذ رأيته يحبني.. أضع يدي علي صدري أتأكد من وضع الخطاب. أين أنت يا خالي كي أحكي لك؟ تزيدني فهماً وعلماً بما يخفى عليّ كعادتك. أكيد ستُبارك هذه العلاقة. لقد حكيتَ لي عنه الكثير، تعرفه منذ كان بالثانوي حين انضم تلاميذ الثانوي مع طلبة الجامعة للحركة التي أخذت تشتد وتتنوع.. رأيته مبشراً بالخير. خلتك تبالغ في تقديرك له لكنك جعلتني أتعلّق به يصبح أحلى أسراري دون بوح.

حكى لي خالي عن السيارة الكاديلاك السوداء الكبيرة معتمة النوافذ التي وقفت أمام مبنى المعهد، يصر الضابط الذي يرتدي ملابس مدنية علي اصطحاب سامح بلطف أثناء الامتحانات: كيف تأخذني من اللجنة دون أن أكمل إجابة بقية الأسئلة؟ رد الضابط وهو يستحث خَطوُه برفقٍ غير معهود: لا تقلق ستنجح. أعدك كلكم ستنجحون.

دخل السيارة ووجد نبيل يجلس خلف السائق يضع كفَّيه بين ركبتيه كعادته في الجلوس، ولما كانت الحيرة أكبر من التساؤل، اكتفيا بالنظرات.

عبر النوافذ يتأكد الشباب من هدوء الشارع.. لا توجد مظاهرات بسبب دخول الامتحانات.. لا توجد أية تجمعات بالشارع لا شيء يشي بسببٍ معقول لما يحدث.

أخرج سامح سيجارة من علبته، فرماه الضابط بنظرةٍ حادة في المرآة التي تتوسط المقعدين الأماميين ثم فتح التابلوه وأخرج جريدة يخفي بها جانب رأسه من شمس يونيه الحارقة. همس سامح يطمئن نبيل: لوحة أرقام السيارة تابعة لوزارة الثقافة. لا يهمك.

انحرفت السيارة ناحية اليمين واتجهت إلي الزمالك، مقتربة من الفيلا الأثرية الكبيرة.. أرسل السائق صوت نفيره فاقترب جندي الحراسة القريب يفتح البوابة الحديدية لمرآب الفيلا الذي كانت تصطف داخله بضع سيارات تابعة لرئاسة الجمهورية.

ناحية القوس الذي يفصل بين القاعتين الفسيحتين، يقف ثروت عكاشة مشغولاً بالحديث مع رجلٍ له شعر أشيب. تعرفت عيون سامح علي أغلب الحاضرين، تتوسطهم طاولة الاجتماعات، طمأن نبيل: أغلبهم من منظمة الشباب.. أين أخيك؟

رد نبيل: سأخبرك فيما بعد.

القطع الفنية النادرة و الجداريات المتميزة والثُريات الهائلة تنطق بثَرَاء القُصور. أحد الضباط أمر بغلق الباب. أخذ نبيل مكانه بجوار سامح في مواجهة مقعد الوزير، يحاول أن يتناسى العدد الهائل من المقاعد والشباب من مختلف المعاهد والكليات، والحركات المُوتِّرة ممن يرتدون الملابس الكاكية والمدنية. جهاز التسجيل الكبير ببكرتيه يتوسط المائدة. أحدهم يتأكد من سلامة الأسلاك وتوصيلة الميكروفون. يستغرب الصغير من غياب الصرامة والغطرسة عن ملامح الضباط وسيادة الوزير وكيف تبدلت بكل هذا التوتر والحيرة. جلس سيادة الوزير وأمسك بالميكروفون: أبنائي الطلبة، مساء الخير.. اسمحوا لي في البداية أن نعتذر عن الطريقة التي أحضرناكم بها، ولهذا أسبابٌ كثيرة منها أن الوقت ليس في صالحنا وعُذري في ذلك أن ما حدث علي أرض مصر لا يخص الحكومة وحدها، فأي ضربة عسكرية معادية أخرى سوف تقضي علي الكل بلا تمييز. لذلك وبصفتكم رمز لشباب البلد المثقف الواعد وطليعته أحضرتكم كي أعرف رأيكم في مسؤوليات المرحلة القادمة. أي ماذا عليكم أن تفعلوه. الكلام بالدور من فضلكم وبمنتهى الحرية، لسنا في أمن الدولة. شكراً.

الشباب المتلعثم في البدء في حضرة الوزير، أخذه دفء ترحيب الرجل ورغبته الفعلية في مشاركتهم. ماذا علينا أن نفعل؟ لا أن ننظر للخلف ونحاكم الآخرين. سؤاله واضحاً، لا كلام عمَّا قبل 4 يونيه 1967. لكن الآن ماذا ممكن أن نفعل؟ تناثرت الاقتراحات الساذجة التي أجبرت البعض علي الضحك، قال أحدهم: ممكن سيادتكم تستصدرون قراراً بخفض أسعار أجهزة التليفزيون، فيشتريه أكبر عدد ممكن من الناس ونضمن أن يصل وعينا إليهم عبر الندوات التثقيفية و نقل المؤتمرات الشعبية لهم علي الهواء.. شكراً. كاد الوزير أن يسأل: ما هو مضمون هذا الوعي أصلاً؟ ماذا تحملون من آراء ورؤى تفيد الناس في هذا الحدث الجلل؟ لكنه أشار لمن يرفع يده: تفضل يا ابني. قال الطالب متلعثماً: ممكن حضرتك تستخدم إذاعة أم كلثوم علي مدار اليوم كمنبر يصل عبره الوعي للناس. قاطعه الرجل غاضباً: يا ابني أنا لا أعجز عن إيجاد منابر أو إذاعات، أنا سؤالي واضح ومحدد: من داخل أو حتى من خارج منظمة الشباب الاشتراكي ماذا عليكم أن تفعلوه؟ ما الذي يستطيع أن يقدمه الشباب عموما للبلد بعد نكسة يونيه؟ أقصد أن الموضوع ليس في “كيف”ولكن في “ماذا “. ثم ننتقل لمرحلة الفعل أي التطبيق العملي المثمر. قال آخر: سيادة الوزير.. أقترح أن يجتمع مجلس الوزراء ويصدرون قراراً شجاعاً بتخفيض أسعار السلع الأساسية حتى لا تفاجئنا هبَّات غير محسوبة فتسود الفوضى الشارع المصري.. قبل أن يختتم الولد كلامه وقف نبيل: اسمح لي الناس هنا لم يفهموا سؤالك علي ما اعتقد، أنت تتساءل عن دور أو أدوار يقوم بها الشباب من أجل هذا البلد والمساعدة في محو النكسة، تمام؟ يا سيدي نحن لسنا طرفاً فيما حدث وهذه نقطة مهمة لكن هل أفهم أن الحكومة والنظام الحاكم تَذكَّر فجأة وسط مشاغله الجسيمة أن هنا في مصر، يعيش معه أُناسٌ أُخَر سواء طلبة أو غير طلبة؟ قاطعه الوزير: أنت حتخطب؟ أكمل نبيل: يا سيدي الفاضل.. الشعب بحاجة أولاً لأن تعتذر له الحكومة عن إقصاءه وتجريده من الحرية والديمقراطية، ثم تعتذر قادة القوات المسلحة -بما فيهم القائد الأعلى- عمّا تم في الخامس من يونيه. بعد ذلك نبحث عن دور أو أدوار تشحذ هممهم لمساعدة هذا البلد. شكراً.

أشار الوزير إلي من يمسك نوتة وقلماً، فقام وهمس في أُذُن نبيل الذي أخذ يُملي عليه بياناته في حين وقف سامح يحاول أن يلطف أثر كلمات نبيل التي فاجأت الوزير بل وكل الحضور. كان يشعر بتثاقلٍ غريب في بدنه، نوعٌ من التداعي حطَّ علي أحباله الصوتية كما أخبرني فيما بعد وكأنه صام دهراً عن الكلام، ترن في أذنه أغنية الشيخ إمام: الحمد لله خبطنا تحت باطاتنا، يا محلَى رجعة ظباتنا من خط النار. شهق بعمق يستجمع نفسه ويستعيد هدوئه: السيد وزير الثقافة.. الزملاء، حتى لا أطيل عليكم، أري أولاً أن جنودنا الرابضة على خط النار تحتاج منَّا أشياء كثيرة؛ فنحن هنا داخل المدن ملأتنا الصدمة والمباغتة بالخيبة والمهانة، لكنهم هناك في الخطوط الأمامية يحسُّون إلى جانب هذا بالفقد والألم. مات الآلاف كما تعلمون في وقتٍ قصير، فلابد أن يشعر الباقين أن الجبهة الداخلية معهم في نفس الخندق ولسنا جميعاً في وادٍ آخر حتى لا يموتوا حسرة، واسمحوا لي أن اذكر واقعة صغيرة توضح كلامي..

بدأ سامح يحكي، يتجه بعينه للجالسين ويُكثِر من إشارات يديه، حكى عن جدي الذي فقد أكبر أبنائه في حرب مصر مع اليمن و في الوقت الذي كان يتحدث فيه مع بعض رجال الشرطة العسكرية ويسلمونه أسف القائد الأعلى للقوات المسلحة مع أوراق ومستحقات الفقيد، وقتها يا سادة كانت شريفة فاضل تغني “أنا حلوة وعارفة إن أنا حلوة”. لهذا يجب أن يلتزم الإعلام بالجديد ويعرف أننا في حالة حرب. النقطة الأكثر أهمية -وهي إجابة واضحة علي أسئلة حضرتك- هي دورنا في التعبئة العسكرية.. يجب أن نتدرب علي حمل السلاح، لابد من قيام المختصين بإعطائنا فرقة دفاع شعبي حتى نُحِسُ أن لنا دوراً. وقف الوزير واستأذن لدقائق وسط انبهار الأعضاء، وعاد مسرعاً ثم وجَّه كلامه لسامح: ممكن تأخذ بعض الشباب معك إلي مدن القناة.

عندما انفض الاجتماع كانت الأذونات و التصريحات بدخول بعض مناطق الجبهة في جيبه ممهورة من المسئولين، ووعد الوزير أن يتحدث مع بعض القادة العسكريين بشأن الدفاع المدني للطلبة والشباب عموماً.. ثم شدد علي أن يحضر الجميع المؤتمر الشعبي الكبير الذي سوف ينعقد مساء الغد وألا يقلقوا علي نتائج امتحانات كلياتهم.

أحد أصحاب محلات الفِراشة تبرَّع بإقامة السرادق علي نفقته الخاصة. عبر مذياع المقهى المجاور يطغى صوت “أحمد سعيد” -مذيع صوت العرب- علي كل الأصوات، يحصى ومعه الناس خسائر العدو من رجالٍ وعتاد.. أعدادٌ هائلة من الطائرات أسقطتها قوات الدفاع الجوي المصرية. الزغاريد تعلو مع صوت المذيع، تتناثر أشلاء طائرات “المستير” و”السكاي هوك” وتسقط معها نجمة داوُد. أكواب الشربات الأحمر تملأ الصواني الكبيرة داخل السرادق وخارجه، المدرعات الإسرائيلية والأمريكية الحديثة تنصهر عبر كلمات المذيع وتتحول في أذهان الناس إلي قطع صغيرة هائلة من الخردة سوف تملأ دكاكين وكالة البلح بالخير. الأغاني الحماسية تلهب أرواح الخَلق أكثر مما تفعله بهم شمس يونيه التي تترك بصمتها الساخنة حتى في المساءات. يعتكف عبد الحليم حافظ في دار الإذاعة، فقد أسكنوه إحدى الحجرات لا يتركها إلا ليأخذ حماماً ويغيِّر ملابسه. خارج الصوان ترقص فرقة أبو الغيط علي خبط الدفوف، يهتز الرجال طوالى الشعور ذوي الجونلات الواسعة المزركشة. قطع الحلوى تتناثر عبر الشرفات والنوافذ، يتسلل بائعو الترمس والفول السوداني وضاربات الودع التي سمعها خالي تخبر أحدهم بعد أن وشوش الودع ورمى بياضه: “فيه واحد من دمك غايب وبالك مشغول عليه ولابس ميري اللهم صلي علي النبي.. شايفاه راجع بألف سلامة، منصور بإذن الله”.

المقهى يوزع المياه الغازية، زجاجات الصيدر والاسباتس مجاناً. يتأكد سامح من وجود التصاريح في جيبه، يجذب نبيل من يده ويدخلا السرادق. المكان لا يتسع لقدم. رئيس مجلس الأمة ينتظر أن يخف التصفيق والهتافات.. يُخرِج منديله، يفرده، يملأ به كفه، ثم يقرِّب الميكرفون من فمه ويرتجل كلمته القصيرة: أيها الإخوة والأخوات، جئنا إليكم نعبّئكم فعبأتمونا وأردنا أن نحمسكم فأزدتم حماستنا.

خرج سامح من الصوان، يسير نبيل بجواره وسط زحام جنائزي، تنزل دموعهما دون حساب، تُشوش رؤية الوجوه أمامهما وتضاعفها، تمسخ ملامحها.. تختلف النسب والمقاييس وكأنهما ينظران فوق سطح مرآة معيوب. سأل سامح بعد أن جفف أنفه: أين هشام أخوك؟

رد نبيل مطرق الرأس: معتكف في الزاوية المجاورة للبيت، ومعه عدد كبير من زملاءه في المعهد وأصحابه من الحتة. رفض أن يقابل أبي حين ذهب لإحضاره ولما فشلت محاولات أبي، رجع الرجل مكسوراً وأطلق لحيته هو الآخر..متأثرا بكلام شيخ الجامع: ابنك في حمى ربه في بيت الله، اليقين الوحيد أحسن من هدر الوقت في الشوارع.

***

تأكدت بيدي من وجود الصفحة التي أخفيتها بصدري، تعبث يدي في بقية صفحات الكشكول التي امتلأت بطوابير من الأسئلة سطرها نبيل:

لماذا يدهسون ورود أحلامنا؟

لماذا بات العطاء شحيحا؟

هل الروح تختبئ وراء الجسد؟

هل تحقيق متطلبات الجسد يُعدُّ خطيئة؟ هل يتعارض مع القضية الوطنية؟

لماذا يملؤني الخوف أحياناً كثيرة؟

هل هو خوف من هذا الواقع الذي يتسبب في تعاستي؟

أم هو خوفٌ عليك أيها الواقع؟

هل هو خوف من المجهول؟

أين الفرح؟

أليس هو أبسط أنواع التعبيرات الإنسانية الفطرية؟. أين هو؟

لماذا الحزن دائما هو الأصل؟

لماذا كل هذا التشوش الذي يخلق الهم ويَعلَق على خارطة الروح؟

هل عدمنا القدرة علي التواصل؟

ألا نتفق على شيءٍ قط سوى اتفاقنا المعلن أحياناً والمستتر أحياناً على نفي الآخر؟

هل تختلف أداءاتنا في أي حوار مهما كان موضوعه عمَّا يحدث بين الفصائل الفلسطينية من تشيؤ وانقسامات واتهامات تصل إلي حد التخوين ومحاولات الاغتيال؟

أين أنتِ يا بسمة؟ أقلق جداً بسبب مرضك.. متي أضع يدي بين كفَّيكِ نصنع شيئاً جميلاً يعيش طويلاً ويعلِّم الأجيال القادمة، وأستعيض بك دفئا وحناناً وحياة.

يا الله..

وضعني علي قائمة همومه وأوجاعه الخاصة جداً. ابتسمتُ وأنا أشاهد الخطوط الكاريكاتورية.. لطفلٍ صغير يفتح فم رجل نحيل يرتدي طاقية صغيرة، ثُبتت في منتصف رأسه تتوسطها نجمة داوُد السداسية. الولد يدس السم علي هيئة بيضة ملتهبة ويقول فَرِحاً: هييه..

يا للبساطة.

قوات الأمن الرابضة حول الأسوار تغير مسار السيارات والحافلات وتمنع المارة. سكان منشية الصدر لا يكُفُّون عن إرسال الطعام والحلوى البيتية والمخللات وحتى البرتقال المقشر.. أكياس بلاستيكية داخل أكياس يلقون بها، نخصص من يتلقفها ويشاركوننا في ترديد الشعارات. دخان منتظم بطول السور يصنع مع الضباب الشتوي شرنقة طلسمية واطئة. يصلني صوت الارتطام المتواصل والمتزايد لقطع الحجارة فوق الدروع والخوذات. رعدتي الداخلية تتزايد. الشعارات بدت أكثر حدة ووضوحا “هو بيلبس آخر موضة وإحنا بنسكن عشرة في أوضة”. الراديو الترانزستور بجواري يعلن أسماء المعتصمين من صوت لندن ويؤكد للمرة الثانية استمرار عمال حلوان في إضرابهم عن العمل حتى تفُك قوات الأمن حصارها عن الجامعة. انتهينا من صياغة البيان الصادر عن الاعتصام الذي ينادي بحرية الجامعات المصرية والكف عن التدخل في شؤونها وإلغاء حرس الجامعة والإفراج عن جميع المعتقلين وحلّ مسألة الأرض المغتصبة. وقَّعنا عليه ثم مد لي نبيل يده بكوب شاي قد صنعه علي الكانون خارج بوابة القصر بعد أن ذهب أغلبية المعتصمين للراحة. حمدت الله أن برودة جسدي تبدلت بحرارة عفيّة وقد زالت آثار الحمى. يتوقع الجميع ردود أفعال غريبة من الحكومة غداً بعد أن تنشر وكالات الأنباء بياننا وبيان الترسانة البحرية والحديد والصلب وغيرهم. الساعة تشير إلي الثانية والنصف صباحاً. اخترت أن أكون شريك نبيل الذي يناوب في الحراسة. أتصفح مسودة البيان في مفكرة نبيل الذي يجلس أمامي وأعرف أنه ينظر لي، يعقد ذراعيه حول صدره ويحبك الكوفية الحمراء حول عنقه. أشار إلي حجرة البنات وقال: لو أردتِ النوم، اذهبي. هززتُ رأسي نفياً، بينت له جزء من الأوراق التي أحملها فوق قلبي تحت القميص أعتذر عن مزقي إياها. فرك يديه في توتر ثم قال: وقفتُ أنظر إليكِ طويلاً ليلة أمس، أحقد على الحمى التي ألمّت بكِ وجعلتك لا تدرين بما حولك. ملامحك كانت مبتسمة لكن عند جوانب عينيك لمحت دمعاً.. فالجيوكندة كما تعلمين لها ابتسامة ساحرة لكن في ملامحك رأيت دموع الجيوكندة.

كدت أن أقول له إنني لا أحب هذه اللوحة ولا أرى فيها جمالا ولا دفئاً لكني خفت أن يحسبني متدنية الذوق فسكتت. قال: يبدو أن الشتاء يتواطأ مع أمن الدولة علينا.

راحت عينيه تشرد في اللون البرتقالي المتصاعد من أثر اللهب عند قدمي الكانون. كيف تكون للنار كل هذا السحر علي الحواس؟ لهب يشع بالدفء يسرق الوعي أحياناً . قلت له وأنا تأسرني الألسنة الحمراء للنار: خطك جميل مثل كلماتك يا فنان.

كنت أجلس علي المقعد المواجه له، جذب مقعده أكثر، دق قلبي، أود لو أغوص داخله الآن، تذوب كفي من حرارة كفه، أضمه حتى يتلاشى كياني، أظل أعانقه حتى يحملنا الهواء ونصعد إلي الأعلى يتوحد كيانينا لا نحس إلا بهمسنا. قال فجأة: توجد حركة ناحية الممر السري آخر الردهة. أجبت بهمس: علَّ أحدهم قلق. لكنه أشار ناحية النار التي أُطفئت فجأة أمام البوابة الزجاجية الكبيرة، فالتصقتُ به وانتشرَت مسامِعُنا تُلملِمُ الأصوات الغريبة العالية التي صاحبها انتشار الفلاشات المبهرة القوية. من أين دخلت كل هذه الأعداد؟

ماتت يدي داخل كفه، كفٌ واحدة صارتا. كيف لم نحس بكل الأقدام و البيادات الثقيلة؟ إنهم يأتون من خلف القصر، من نفس الباب السري الذي صمموه للملك يلج منه في حالات الطوارئ.

هاع.. هاع

الأرض الخشبية تهتز تحت زلزال أقدامهم، يتردد صدى الصوت من جدارٍ إلي آخر، أصوات الجنود تتعالى مع خبط الأقدام، هاع.. هاع ثم اصطفوا في طابورين أمام الغرفتين، غرفة البنات وغرفة الشباب. بعض الجنود تهبط عبر النافذتين المحيطتين بالبوابة الأمامية فتحها أحد الضباط من الداخل. نقف متلاصقين تتشابك أصابعنا نهتف: تحيا مصر.. جريتُ مسرعة إلى صحن الحرم أهتف: اصحي يا مصر.. اصحي يا مصر. أصبح عناد البرد ممسوساً يصل إلى أدق عظامنا ويسيطر علي المكان الذي بات مفتوحاً من كل الجهات.

سيارات النجدة والجيب ونقل الجند والإسعاف وسيارتان للمطافئ بجوار البوابة. ماذا يظنون؟ كل هذه الرشاشات والبنادق والمسدسات؟ هل نحن عصابة تهريب مخدرات؟ أم أننا نأوي خُط الصعيد؟ علني أحلم مرة أخرى، فعلى الأقل أمتلكُ الحلم في مواجهة الحقيقة الوحيدة الواضحة: لا نمتلك شيئاً في هذا الواقع سوى الحلم، تلك الصيغة الرومانسية البراقة التي بفقدها نصل إلى حد الجنون.

بؤرات الضوء المبهر لا تزال تلذع يقظتنا الفجائية المفجوعة. رسمنا علامة النصر، تغني أصواتنا تزاحم بقايا النوم في تلك الساعات القليلة الباقية علي مجيء الصباح. استيقظَت كل حواسنا بينما الرشاشات مصوبة إلي صدورنا. هاع.. هاع لا تزال يتردد صداها داخل الممر الخلفي وداخل رؤوسنا، كأن الجنود تعلن فرحتها واحتفاءها بانتهاء الوقفة التي تصلبَت لها سيقانهم في الهواء البارد تحت أعباء الخوف.. خوفٌ من الأوامر، من الخطأ، من التهاون، من البرد الكاسح في الطل ومن الجوع وألم الانتظار.

اصطفت البنات في طابورٍ وبدأنا نصعد السلالم الخلفية لعربات الترحيلة. تسحّبَت الشاحنات في بطئٍ متسترة بالظلام. الرياح تعوي داخل أسوار الجامعة في حرية بعد أن أفرغوها منَّا ومنهم وكانت في عراكها لا تزال مع الأشجار ومع أعمدة الإنارة. الجُند تجلس مُرهقة عند مؤخرة السيارات الثمانية التي حشرونا فيها، تتسمع آذاننا لهسيس السيارات الثقيلة.

أين يذهبون بنا؟

لم يسمع أحد سؤالي بعد أن فرضت أغنيات الشيخ إمام نفسها علينا كحلٍ جماعي ودواءٍ للمفاجأة:

يتجمعوا العشاق في سجن القلعة

يتجمعوا العشاق في باب الخَلق

والشمس غنوة من الزنازين طالعة

ومصر غنوة مِفرَّعة في الحلق

يتجمعوا العشاق في الزنزانة

مهما يطول الظلم مهما القهر

مهما يزيد الفُجر بالسجَّانة

مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر

هامات الأشجار سوداء غامقة. أسمع ناظم حكمت يُلقي أشعاره بداخلي.. كلماته عن الحبس، والتي نقلتها في مجلة الحائط عند افتتاح إحدى مسرحياته: الحبس ليس القيد والقضبان فقط الضحكة من وراء القلب حبس، القلب الموجوع حبس انفرادي، الخوف من الفرح حبس، الفم المغلق عن البوح هو الحبس، القيود التي تتراكم تُغيِّم علي العقل والقلب فتخنق الروح، الهم وراء الهم أمواج شيطانية المد تأكل شُطآن الروح تتخلل جدران كياناتنا فلا نصير بشراً.

إلي أين نحن ذاهبون؟ لماذا يصبح الصمت ترفاً لا نستطيع التعامل معه؟ أجلس في نهاية المقعد الجانبي الكبير لا أرى أمامي سوى عدد من نهايات اللفافات المشتعلة تهبط بها الأيدي أو تعلو تعرف سكة الأفواه عبر الظلام الحالك. الجنود يسدون الهواء عند مؤخرة السيارة ومن يقف منهم يسد الرؤية.وقفت أنظر عبر فتحات الإطار السلكي الذي يفصل السيارة عن كابينة السائق. لمحتُ الضابط الشاب يترك رأسه للهواء يسندها فوق ذراعه المَثنِي علي حافة النافذة وينام.

أين نسير؟ أرى السور الجانبي لمَشفى كوبري القبة العسكري. كيف تمتد الصحراء بعدها ولا أثر حتى للكلاب الضالة؟

يا الله ..

أين ذهبت المدينة؟ الناس؟ الأشياء؟ البنايات؟ السيارات؟ الأصوات؟

ما كل هذا الإحساس بالفقد؟ لماذا لا يخصصون بالجامعة قسماً لدراسة الفقد؟ يُدرجون فيه أسماء أشقائي الذين ماتوا قبل أن تراهم عين أمي أو تداعبهم؟ فقد الرشد وفقد البراءة.

لماذا نحمل كلنا ذاكرة الفقد المثقوبة تلك؟ ما كل هذا العبث؟ وكأننا داخل أعماق كهوف باردة مُسيّجة منعزلة مسكونة بالوهم؟

كنت مع أبي نصطحب أمي من المشفى الميري، كاد أبي أن يصرخ فيها أكثر من مرة لإصرارها علي الخروج منه قبل أن تسترد عافيتها ويقف النزف، نوعٌ من السأم كان يلف مشاعرها، فيَرينُ الصمت علي ملامحها، يُزينَها. يكاد الشحوب يضيء وجهها الحليبي. جلستُ بجوارها علي المقعد الخلفي لسيارة الأجرة، أحتضنُ حقيبتها الصغيرة التي تنظر إليها في حسرة وأشم منها رائحة الدواء. أبكي وأنا أتخيل ملامح لشقيقي الذي راح ولا أفهم سبباً وراء إجهاضات أمي المتكررة، وعندما أتجاسر وأسألها، تداعب شعري ساهمةً وتقول: مش رايد لي أقوم مجبورة. وعندما يتزايد بكائي تُسرِّي عني بالحكي عن أشياء بعيدة عن الحزن أو البكاء، تنزف وهي تحكي لي عن جارة عمتي، هي تحكي وأنا أُحلِّق أرى الحروف والكلمات أشكالاً وعوالم أعيش معها وأنا أُحدِّث عرائسي القماش.

حكت لي عن الصراخ الذي ملأ الحارة فجأة، كان آتيا من بيت أنيسة الداية. امتلأت الشرفات والنوافذ بالكبار والصغار يتهامسون، نساء الحارة تتوجس، تحاول أن تُخمِّن المرأة التي فاجأها المخاض. تمشِطن الحارة بخيالهن وأثناء ذلك يرسلون الجواسيس الصغار يندسون بين الجمع الصاخب أسفل الشرفات المتآكلة يستكشفون الأمر. الداية تجري يعلو صراخها: راجل الحقوني راجل.. لم يفهم أحد شيئاً. أجلسوا المرأة التي تلهث من المفاجأة علي عتبة البيت والتفوا حولها، وكان الزنجيري صبي المعلمة صاحبة المقهى يهرول متعثراً أمامها يكاد يموت ضحكاً. أشارت إليه القابلة وهي تحكي كيف أنه لفَّ وجهه وأخفى جسده المتهدل تحت عباءة واسعة وربط حملاً مصطنعاً فوق بطنه، دخل إليها يتكئ علي امرأتين متوجعاً يُمسك ظهره وسط دعوات القابلة: إن شاء الله خير. وهمَّت برفع العباءة، لكن إحدى السيدتين حلَّفتها أن ترفق بالحالة لأن المريضة عندها “طلوع” كبير بين فخذيها. بسملت أنيسة وبدأت تكشف ذيل العباءة برفق وسط تخوف المرافقتين وتأوهات المريضة وتخلع سروال المرأة. بعدها أخذ ت تجري في الحارة كالمجنونة وتمسك علي كلمة: راجل راجل. وكانت المعلمة صاحبة المقهى وراء ذلك، فبين فترةٍ وأخرى تفكر في مثل هذه الأشياء تُسَري بها عن نفسها وسط ملالة النهارات المتشابهة ورتابة المساءات فتجد لنفسها حكاوي لا تنتهي.

كم الساعة الآن؟

لم استطع أن أتبين وجه الساعة في يدي عبر ثقوب السلك. لا أرى أمامي سوى رمال تلتمع فوقها أضواء كشافات السيارات. البراح أمام رتل سيارات الأمن فسيح لانهائي. كادت السيجارة أن تلسع أصابعي. ألقيتها علي أرضية السيارة ودهستها بقدمي أكثر مما ينبغي.

قالت فاتن تلميذة الفنون المسرحية: قُطعِت الهند على باكستان في ساعة واحدة.

ضحك الجميع على جملتها المباغتة في نوباتٍ انفعالية وأصواتٍ مبحوحة، وعَين الجند حيرى بين وجوهنا، في حين كان أحدهم يمصمص شفتيه في أسى. مالت فاتن بجذعها وهي تسخر من كلمة “عام الحسم” التي توعَّد بها السادات ونقمَت علي الهند وباكستان اللتان بحربيهما جعلتا الضباب يعيق قدرة القيادة السياسية في بلادنا على التحرك العسكري. عند سكوتها ألقيت بسؤالي: أين نحن ذاهبون؟ سمعتُ إجابات كثيرة: إلي أحد الأقسام، إلى مباحث أمن الدولة أو إلى السجن. أكملت فاتن: بجد مش معقول، في 1970 وفاة عبد الناصر، في 1971 عام الحسم دون أن يتم حسم شيء، في 1972 يمسكون بقيادات البلد ممن نادوا بالحرب وبعدهم يمسكون بنا لأننا نطالب بالإفراج عن المعتقلين وهكذا بكره تخرج ناس تطالب بالإفراج عنا. عارفين طبق طبقنا؟

وكرر معها أغلبنا: طبقنا طبق في طبقكم، يقدر طبقكم يطبق في طبقنا زى ما طبقنا طبق في طبقكم؟

وعلي إثر ذلك قفز إلى ذهني سؤالٌ علَّه أخطأ الزمان والمكان: كيف نستطيع تحديد بدايات الدائرة؟

وقف رتل السيارات متهادياً، أَحبَكَ الجميع الملابس والكوفيات ونزلنا. رأيت نبيل يجري ناحيتي، احتضنني بكل شوقي لاحتضانه وبقدر عدم فهمي وبقدر اشتياقي لأُمي وقدرِ أملي المُفرح في الأيام القادمة. رشاش الجندي -حائر النظرات بيننا وبين الضابط- يكاد يلامس وجهي. سحبوا الفتيان بعيداً عنَّا.. عَلا صوت نبيل: سأعرف كيف أتصل بكِ. سأكتب لكِ وتكتبين لي. تشجعي.

حَالَ الجُند بين الطابورين وساروا بهم ناحية سجن الرجال بينما كانت اللافتة النحاسية المكتوب عليها “سجن القناطر للنساء” تتوسط الباب الرمادي القديم.

كان الهدوء يشمل المكان. بعض الفتيات تهتف لا تزال، ينتصب الباب الخشبي العالي أمامنا بلونه الرمادي الحائل وتشققاته التي تبدو كالتجاعيد لقِدَم وجفاف طلاءه. مفتاحه الضخم يدور من الداخل بعد أن نظر أحدهم من العين السحرية الكبيرة. السجَّانات تصطفُ في الداخل من الناحيتين تصنع ممشىً. أشاروا للضابط بالدخول إلي حجرة البيك المأمور، شديدة الضوء بالقياس إلي شحوب الإضاءة الذي يلف المكان. يعقد عقلي مقارناته الخاصة بين سجَّانات الأفلام العربية والأجنبية وبين تلك النسوة البائسة التي تنتشر حولنا، تكسو الدهشة وجوهها، تحمل امتلاءات لصدورٍ مترهلة بلا مشدَّات، ترتكن في جماعية مذهلة إلي مَعِدَاتٍ عالية كالتبَّة تتصل بالبطن الممتدة أمامهن دون فواصل. بعضهن تَحبكن الفساتين الرمادية حول الجسد. على كل الشعور يوُضَع البيريه من نفس لون الفستان. في حجرة المأمور جلسنا دون استئذان. مَلأنا المقاعد ومساندها. وقف الرجل ينظر إلينا ثم دار حوارٌ قصيرٌ بينه وبين قائد المأمورية الذي كان الإجهاد بادياً عليه وعلى جنوده. مدَّ يده بالأوراق الرسمية: يافندم مجرد إيداع، حضرتك دي أوامر.

أدّى الضابط التحية العسكرية واستأذن ليدور المفتاح الضخم مرة أخرى، يخرج هو ومن معه ونسمع صوت موتور السيارات مبتعدة في خفة بعد أن تركت حِملَها لُغزاً لمأمور السجنين. سمعناه يقترب من الأخصّائية ويقول: أعمل بيهم إيه مش عارف؟

تحدَّث معها في همس لوهلة وهي تهز رأسها مصدِّقة علي ما يقول، ثم فتحت المرأة أمامنا سجلاً كبيراً وأشارت إلينا بلطف بالاقتراب. تركنا علي الورق أسماءنا وأسماء أقاربنا وأعمارنا وأسماء كلياتنا وتخصصاتنا وما معنا من نقود لإيداعها كأمانات ثم وقّعنا وسرنا وراءها إلي حوش السجن.

تتناثر الأبنية الرمادية ذات الطابق الواحد في غير ما نظام. عنابر لها أسماء وأخرى لها أرقام تتضح تحت اللمبات الصفراء القابعة فوق بعض الشبابيك. القضبان الحديدية الصدئة تنتصب بطول النوافذ. الحركة غير العادية في تلك الساعة المتأخرة بالسجن أثارت تساؤلات بعض النزيلات: مين دول يا ست لوزة؟ لم ترد الحارسة.

-الإيراد ده تبعنا يا أبله لوزة؟

نظرت الحارسة إلي الأخصَّائية تستأذنها في الرد تجنباً للفوضى: طلبة يا بت، اهمدي وخليكي في حالِك انتِ وهي.

أمام مبنى مستشفى السجن وقف الجميع. أدارت لوزة المفتاح في عين الباب الحديدي فاحتوتنا ردهة الدور الأرضي بالمستشفى وسمعنا تكات غلقه ثانية. قرأت فاتن اللافتة التي تتوسط الردهة (جرائم الرأي)، ثم سخرت مازحة: “الجرائم لا تفسد للرأي قضية” على غرار المثل المعروف. آخر الردهة على الناحيتين حمامين يخدمان الزنازين الأربعة بالدور الأرضي. الأخصائية تقرأ الأسماء ولوزة تُسلِّم لنا العهدة الميري، بطانيتان راح لونهما وملاءة من الدمور الخشن السميك ووسادة. الهواء يحمل رائحة عفنة تتسلل إلي أنوفنا عبر الممر. قبل إغلاق الأبواب طلبَت ماجدة دخول الجميع للحمامات للاغتسال فوافقت الأخصائية. أشرتُ لفاتن أن تبقى معي عند اختيار الغرف. الإجهاد أصبح غير محتمل نتململ في وقفتنا، لكِنَّا عندما سمعنا السجانة تقول: “تمام يا ست ماري جردل للبول وجردل للشرب في كل أوضة”، ساد الهرج بين البنات حتى ضحكت ماري ولوزة على ضحكنا. في الحجرة التي تطل على الحوش دخلت أنا وفاتن، فلم يتبقى سوانا بعد التوزيع. علي الحائط توقيع لاسم امرأة بالعربية والعبرية؛ سألَت فاتن ماري فأخبرتها أنه لجاسوسة أُعدِمَت في الخمسينات. رَدَّت عاشقة المسرح: خير اللهم اجعله خير.

اخترتُ مكاناً يبعد عن الحائط، يتقزم حجمي أمامي وعيني لا ترى إلا لافتة “جرائم الرأي”..

هل نحن مجرمين إذاً بتواجدنا في هذا المكان؟

ألقت فاتن بجسدها علي السرير السِفَري المجاور بعد أن قذفت بنعليها، تسد أنفها من رائحة الغطاء والجدران، ثم قالت في أداء مسرحي:

كم تستعصي علي الإدراك أيها العالم!

على طنين ذبابة ثقيلة –وكأنها مشبعة بمادة تضاعف حجمها –استيقظتُ أتعجب. كيف تترك كل جسدي وتصر على الطنين فوق أذني حتى بعد أن خبأت رأسي بالغطاء؟ كانت الثامنة والنصف حين دار المفتاح في جوف الباب. راحت عيني إلى رائحة النوشادر التي عبَّقَت الغرفة. مع الحارسة دخلت إحدى نزيلات الحق العام وحملت جردل البول. أرسلت لنا تحية الصباح وهي تتفحص وجهينا وحدَّثت نفسها في طريقها للحمام بصوت عال: والنبي قاضي معرّس معندهوش نظر. لكن سوزان أخبرتها بالردهة أننا لم ندخل محاكم بعد وأننا لا نزال رهن التحقيق. خرجنا من الغرفة نحمل العُهدة الميري علّها في صراع الشمس مع أنسجتها البالية تتخلص من رائحة الرطوبة. كانت الشمس كالفاكهة، حلوة.. نشرنا فَرشَنا فوق السور الخارجي للمستشفى، وعلى البعد كانت أسراب أبي قردان تطير في التفافاتٍ دائرية ثم تحلِّق عالياً بعدها تنتشر في البعيد وتكسو المساحات الخضراء. جلستُ بجوار فاتن علي إحدى البردورات التي تحوِّط بعض الورود الصفراء أُحدِّثها عن آخر المحاضرات التي ألقاها عميد الكلية علي دفعة الفرقة الرابعة كما قال لي نبيل حين أخذ يُفرِّق بين القبض والحبس والحجز. القبض تقييد للحرية وإمساك الأشخاص عن الاعتداء على حرية الغير، والحجز هو منع الشخص من التجوال بحرية فترة من الزمن، بينما الحبس هو المكان الحكومي المعدُّ للحجز. وقسََََّم في بداية المحاضرة أركان الجريمة التي تقتضي القبض أو الحجز إلى ركنٍ ماديّ وآخر معنوي بشرط توافر الإرادة المتجهة إلى إحداث هذا الفعل العمد. كما قال أن الاشتباه في جريمة ما يبيح الإيقاف. قالت فاتن أن على نبيل أن يسأله في المرة القادمة، هل الرأي جريمة؟

أصبحت سامية مسئولة الإعاشة هنا أيضاً، تَحَارُ من أين سنحصل على وجبات اليوم. تذكرتُ معلومات خالي عن أثرياء السجون؛ مسجوني المدد الطويلة يتاجرون في المسموح به تماماً كما يتاجرون في الممنوعات إلى أن تأتي زيارات النزيل فيأخذون حقهم الذي يدوِّنونه بالقلم والورقة بالإضافة إلي أرباحهم وكأنهم يفتحون دكاكين.

انتهت النزيلة — نوباتجية الحجرة — من تنظيفها وأشارت أن تأتي إلينا بالمعلمة “وسيلة” في حين ثبَّتنا بعض المسامير خلف الباب وعلَّقنا حقائبنا والزائد من الملابس. أتت “وسيلة” في خطواتٍ تنطق بالدلال، بلونها الأسمر النوبيّ. أسنانها البيضاء في الثغر المتبسم تشي بفتنتها. تعتمرُ شالاً تزينه وحدات متكررة من الورود الملونة البارزة، تتسق مع جلبابها الرجولي خليجي الطراز. دخلَت المرأة الشابة وأمامها فتاة تحمل صينية كبيرة اصطفت فوقها الأكواب والبرطمانات الفارغة وإبريق ضخم من الألومونيوم. قامت الفتاة بصب الشاي الذهبي للجميع في حجرتنا أنا وفاتن وقد تجمعت كل الفتيات بها. طلبَت منّا ألا نحمل هَمَّاً للطعام والشاي والقهوة وحتى الصابون: كل شيء موجود والحمد لله، هو حيبقى سجن وعُوزة؟ سألَتها ماجدة: قانوني ده يا ست “وسيلة”؟ أمسكت فاتن بأقرب الوسائد وألقتها عليها: يا شيخة، اشربي وانتِ ساكتة؟ يبقى انتِ والسجن؟

صاحبات المدد الطويلة أو المؤبد، سواء القاتلات أو جالبات المخدرات والمتاجرات فيها، تعشن أيامهن هنا ملكات متوجة؛ لا تأكلن أكل السجن. ترسلن الخطابات وترتدين ما تشئن وتطهين ما تُرِدنَ من طعامٍ على موقد المستشفى ولا تقتربن من الجِرايَة. يا الله.. حتى هنا تتضح الفوارق الطبقية؟

كان الغبار الكثيف يتصاعد من المطبخ الكبير، فعرفنا أن السبب في الغبرة أجولة العدس التي يفتحونها ويصبونها من الجُوال رأساً في الآزان. لكل نزيلة مغرفة واحدة في القروانة الألومونيوم العهدة، وثلاثة أرغفة تأتي من مخبز سجن الرجال المقابل.

بعد محاولات عديدة، وافقت إدارة السجن علي إعطاءنا نصيباً من العدس جافاً ورحنا نمارس أدوارنا في غسله وطهيه بالطريقة البيتية بالزبد الذي نقترضه من “وسيلة”.

كل صباح في حوالي الثامنة أو بعدها بقليل يكتمل عدد الحارسات القاطنات في السكن الإداري الخاص بهن بالقرب من السجن. ثم تجلب سيارة الترحيلات بمن تسكُنَّ بالقاهرة، ترتدين الزى الموحد وتفتحن أبواب الزنازين وتشرفن علي العاملات بورش الحياكة أو الغسيل وغيرها. نتناوب دخول الحمامين، نقترض الشاي وعلب السجائر من “وسيلة”، نتمشى في السجن ونتحدث جماعة وأحياناً تركن بعضنا للهدوء بمفردها طالما لا يوجد جديد. لم نعرف أن الحمام الأسبوعي للنزيلات كان جماعياً. رفضنا أن نتعرى أمام بعضنا مثلهن واشترينا حتى الماء الساخن على حساب “وسيلة”.

نتلصص علي الحمام الجماعي. النسوة تقف عارية في طبيعية مذهلة، البثور التي نحتها داء الجرب تنتشر واضحة، تشوهات بالجملة فوق خرائط البدن تشي بمحاولات قواديهن بالعقاب والتأديب إذا حاولت إحداهن أن تترك العمل أو تختار قوادٌ آخر أو حاولت الفرار بجسدها. نلمح عبث النساء المكبوتات تحت زخات الماء الشحيحة عبر عيون مصفاة الدش التي أكلها الصدأ. الضحكات تجلجل. نرتص حول نوافذ الحمام نبصّ ونسترق السمع حتى ينتهي صخب الماء بعدها تجلس النسوة علي عتبات العنابر وكأن ونس القرية المتربة أعتابها لم يبرحهن قط. تفلت بعض الآهات مع تمشيط الشعور المبتلة. تبدأ أسماء الأهل والأبناء تنفرط علي الألسنة: يا ترى عامل إيه يا ضنايا؟ بعدها يبدأ بكاء مكتوما يمزق القلب، نشعر بالسجن لأول مرة وبالنقمة علي كل الأشياء، ولا ندري كيف يمتلأ الجو فجأة بالتلميحات الجنسية الفاجرة. تحايل أو محاولة للخروج من حالات الأسى التي أدركنَ بالتجربة أنها لن تجدي شيئاً. محاولاتٌ من أجل البقاء أحياء ثم ترحنَ في الضحك. التلميحات تعَبِّر في جماعية عن الشوق للرجل. تختلف الأعمار والتهم ومدد الحبس كما تختلف أشكالهن وتتفقن جميعاً في الأشواق وخصوصاً شوق الخروج ولو بالرأس فقط خارج الأسوار إلى تلك الدنيا الواسعة التي تمتنع عليهن. تتعالى نوبات الضحك الماجنة أو الغمز واللمز وآهات التحسّر بالتناوب.. وحين تفشل إحداهن في مداراة النبرة الموجعة، تتسربل إلى آذاننا.. تقتحم جُدُر القلب.

الشتاء قارس يجبر ملابسنا إعلان فشلها في التصدي له. الشمس تبدو هزيلة مقهورة لا تكاد تظهر من كثافة السحب الرمادية المُحمّلة بالرطوبة. نخترع السباقات الوهمية، نجري من حائط لآخر طلباً للدفء بعد أن بات عزيزاً. وعند كل مساء تصلنا صرخات النسوة، كنا نحسب أن الإدارة تقوم بتعذيب إحداهن، لكنَّا اكتشفنا أنها صرخات الجسد وتأوهاته المكبوتة. نفتش في الوجوه المُسهدة عند الصباح ونسمع للمرة الأولى عن المُخاواة ونتعرف من بعضهن على السحاقيات. نجلس مع طالبات الطب منّا أو من لديها تفسير ومعلومات عن السحاق والسحاقيات. يا الله.. عالم بكامله تفاجئني أغلب تفصيلاته. خرجنا مسرعاتٌ علي صوت الشجار والجلبة، إحدى السحاقيات تمسك بعبدون –سجين من السجن المقبل– الذي يُحضره الحارس كل يوم لتشغيل موتور المياه الساخنة لزوم الحمام والمطبخ. أجلسَتَه على رمل الحوش ثم رقدَت فوقه تشبعه ضرباً، أنذرَتَه مرتين من قبل وحذرَتَه من معاكسة وفاء شريكتها في الفراش. عنفٌ أراه غريبٌ علي النساء جعلني أتساءل كثيرا عن الجنس السوي منه والشاذ. كيف تهرب امرأة من أنوثتها؟ وكيف ترتخي ذكورة الرجال؟ نزعات ذكورية تتوافر لدى النساء وأخرى أنثوية عند الرجال.

اقتربتُ من كريمة أسألها بعد أن هدأت وتركت عبدون، لكنها حكت عمّا يدور في سجون الرجال وأكدت أن عبدون هذا يرتدي في الزنزانة ملابس الحريم وان لكل عنبر امرأته ويعلقون خلف الأبواب الملابس الداخلية الحريمي المزركشة والمتضمخة بالروائح الرخيصة. يُزَفُّ عبدون كل ليلة إلي أحضان المعلم (القِرش) والذي لا يمانع في أن يتبرع أحد نزلاء العنبر — ممن يرضى عنهم المعلم– “بتسخين المعلم” حتى ينتهي عبدون من ارتداء الملابس وتزيين وجهه.

تُرى ما الذي يدور في الخارج؟ شهرين كاملين.. وماذا بعد؟ أين المحامين وأُسرنا واتحادات الطلبة وأساتذة الجامعة المتعاطفين مع الطلبة؟ والأهم من كل هذا: أين النيابة؟

أحملُ إبريق الشاي الكبير وتحمل فاتن كيس السكر على النوتة وبعض الأكواب. نسير خلف العنابر بحمولتنا كما أوصتنا مسئولة الكانتين تجنبا للوشاية. اعترَضَنا عبدون يُخرج لنا من جوربه أوراقاً مطوية في حجم علبة الكبريت، يمدُ لي يده: بكره عاوز الرد يا أبلة ومعاه الحلاوة. تُرى هل هي بيانات من زملاءنا كما خمَنَت فاتن؟ شيئاً بداخلي أكّد لي أنها من نبيل. ذهَبََت فاتن وتركت ما معها لماجدة وسمعت زحف “شبشبها “تأتي مسرعة. أغلقنا الباب خلفنا نقرأ سوياً دون صوت:

موناليزتي الجميلة

أفتقدك حتى البكاء، وبقدر اشتياقي لكِ أشتاق للخروج. شهران كاملان الآن لم أرك. المرة الثانية يا بسمة التي أحس فيها بشرخٍ داخلي لا أدرِ إن كان سيلتئم يوماً. قبلاً لم أكن أخاف حتى من العفاريت، ولم أشعر بكل هذا القدر من المرارة. عفواً حبيبتي أسمع أحداً يحاول فتح الغرفة. سأخفي القلم والورقة الآن وسوف أكتب لكِ ثانية في المساء على الضوء البعيد الصادر عن عامود النور القريب من الزنزانة.

صديقك الفنان

6 مارس 1973

كان صوت آمال صارخا عبر الشبابيك: يا بنات! كله يجمَع.

ضحكت فاتن وعلّقت: حَوِّل.. الست الريسة تنادي.. حَوِّل. يا ربي أنا مالي ومال السياسة. قومي نشوف يمكن الحرب قامت!!

وضعتُ الأوراق داخل المشدّ ناحية قلبي أحس بالحياة وأطير بحرية. أتحرق شوقاً لقراءتها. جلستُ بجوار فاتن في مواجهة الفراش الذي تجلس عليه ماجدة، بجوارها آمال تدخن وفي يدها كوب الشاي. كانوا قد بدأوا الحديث منذ فترة قليلة. قالت آمال: “لا بديل عن حربٍ شعبية.. حرب تحريرٍ حقيقية”. علَّقت ليلى: “نعم. لكن النظام الطبقي الحاكم لن يسمح أولاً للناس بحمل السلاح لأنه سوف يصبح هو الهدف الأول لهذا السلاح”. وقبل أن نسمع منها كلمة “ثانياً” قاطعتها ماجدة: “يا عزيزتي.. نحن لا نطلب من هذه الحكومة شيئاً، انتهى عهد التسول. إن واجبنا أن نُحرِّض الجماهير صاحبة المصلحة الحقيقية وندعوها لرفع السلاح في مواجهة ظالميها سواء في الداخل أو في الخارج”. زاد الحماس أكثر لكن آمال قالت في هدوء: إننا لا نطالب الحكومة، لكن هل شعبك جاهز لمثل هذه الحرب؟ أنا لا أنكر أنه شعب شجاع وبطل وخاض العديد من البطولات منذ الفراعنة وحتى العصر الحديث ..

قاطعتها فاتن : اسمحوا لي.. منذ عهود الفراعنة الشعب المصري يتحمَّل ويصبر علي الجار السو حتى تأتيه مصيبة من السماء. لكن كلام عن كفاح ونضال… لابد من الدقة. ليس من مصلحة أحد هنا أن يردد كلاماً هو بعينه ما يتبناه مزيفو التاريخ. مع دخول الحملة الفرنسية فقط نستطيع أن نتكلم عن مقاومة وإبداع حتى في طرق وأساليب النضال، وللتوضيح أكثر وبأمانة، منذ أمر نابليون عساكره بدخول الأزهر، بيت الله. كادت ماجدة أن تلقي بكوب الشاي على وجه فاتن لكنها اكتفت-بعد همس آمال لها– بلعن السجن والعمل السياسي أصلاً الذي يضطرها للجلوس في مكانٍ واحد مع الجاهلات والغبيات. وقفتُ وأنا أرفع يدي قلتُ:

يا جماعة.. هذا تزييف للحقيقة. أنا انتمي لهذا الشعب وأحبه وأحمل همومه بداخلي، تكبُر معي. ما قالته فاتن شيء حقيقي للأسف الشديد. إن الأشياء لا تتم لمجرد أن قيادات أي واقع ترى وتحلل وتقرر بالنيابة عن الجماهير بدعوى أنها “أكثر دراية” بمصلحتهم وبما يعرقل مسيرتهم. قالت ماجدة: لن يتم أي نقاش في وجود هاتين الكائنتين. قامت آمال وأخذت ماجدة من يدها وخرجتا من الحجرة، وأكملت ليلى كأن شيئاً لم يحدث: إذا كانت حرب الشعب هي البديل الوحيد الآن لاسترداد الأرض من أين لنا بالسلاح؟ ردت فاتن هازئة: من الكانتين علي حساب “وسيلة”. لكن ليلى أكملت باسمة: يا جماعة.. البلد مخنوقة بالقوانين الاستثنائية والقوانين المعرقلة للحريات والقيادات الثورية والوطنية في السجون.

علي إثر كلام ليلى قالت فاتن في حدة وثقة: يا إخواننا دي مسألة جغرافية بديهية، مصر سهل منبسط كما درسنا في الإعدادي والثانوي، والأماكن الجبلية غير مأهولة سوى ببعض البدو، والحروب الشعبية تدور رحاها في الجبال، ومن هنا عظمتها لأن الأهالي أدرى بالأرض، ومهما طالت مدة الحرب لابد من انتصار الشعب المقاتل. ليه؟ لأن القوات النظامية لا يمكن أن تنجح مخططاتها وتقع في الفخاخ التي ينصبها الأهالي والموت يكون لهذه القوات بالجملة، لكن من باب الديمقراطية ممكن أوافق.. بشرط نقل الناس والبيوت من المدن والنجوع والكفور المصرية إلى الجبال ونستدعى الخبراء من فييتنام ينوبون عن القيادات المصرية والعسكرية وشكراً.

حمدتُ الله أن الحارسات جاءت تحصي عدد أفراد نزيلات الزنازين لزوم أخذ التمام اليومي قبل الإغلاق. دخلنا إلي حجرتنا وأغلقناها بأيدينا هذه المرة. وقفَت فاتن فوق الفراش وفي يدها قطعة من القطن المحروق –التي يستخدمونها هنا في عمل الكحل– ترسم علي الحائط الدلتا وجزءاً من البحر المتوسط وتكتب في منتصفها (سايجون)، ومن الناحية الأخرى كتبَت: آه ما أقسى الجدار. ثم قفَزَت إلي جواري في حركة مسرحية تخطف من يدي الورقة التي كنت أفردُها للتو وأخَذَت تقرأ:

بسمة..

اعذريني فيما سوف أحكيه لكِ فلو لم أتكلم معك سوف أجن، فأنا لا أفكر إلا فيكِ ولن أطيل في سرد ما دار بيننا هنا أمس الأول من مهاترات. فقد دعتنا حجرة الأرواب (وحجرة الأرواب يا آنستي هي غرفة القيادة يسكن فيها أربعة من القيادات الطلابية، يداومون على ارتداء “الروب دي شامبر”، يخرجون به من حجرتهم ويدخلونها سوياً وكأنهم مجموعة من البطاريق التائهة ضلَّت مكانها). كُنَّا نحاول مناقشة موقف الحكومة ونيتها في التحقيق معنا أو الإفراج عنَّا أو الاعتقال. عقلي كان يُخيِّل لي وأنا انظر لأربعتهم أني أرى فيلماً كارتونياً لُأناسٍ هبطوا علينا فجأة من كوكبٍ آخر، يرتدون ملامح الجدية طوال الوقت بما لا يتناسب مع أعمارهم أو خبراتهم. كلنا أجمعنا علي أن الحكومة لم تعرف الديموقراطية أبداً. كان كل واحد منهم يردد ما سبقه زميله؛ يبدأ من بداية الكلام لا من حيث انتهى زميله. أجلسُ أملاً في جملة واحدة جديدة أسمعها لكن الجميع –وكأنه اتفاق غير معلن– لابد وان يبدأ كلامه من خمسة يونيه ذاكراً نفس التفصيلات التي سمَّعها لنا زميله وكأنه في امتحانٍ شفهي يخشى أن يترك أي تفصيلة حتى لا يبدو أقل منهم وعياً. وعندما جاء دوري في الكلام، كنتُ أحس بلغطاً ثقيلاً على قلبي، فأبديتُ امتعاضي من طريقة الحوار الكُتَّابية التي لابد أن تسير في دوائر متداخلة فلا يستفيد أحداً. قلتُ لهم: “اسمحوا لي يا زملاء.. إن حواراتنا هنا لا تختلف عنها في الجامعة أو حتى في الحزب، وكل ما أسمعه أعرفه ويعرفه الجميع من قبل. إني أرى تشابهاً واضحاً قميئاً محبطاً بينكم وبين الحكومة”… لم استطع تكملة الكلام لأن فردة حذاء الطبيب القائد –أبو روب- كانت تحاول أن تأخذ طريقها إلى وجهي بينما كنت أفُكُّ بهدوء، رغم سَأَمي، يد أحد الأرواب الأخرى من حول عنقي. وسط دهشتي لِكَم السباب والاتهامات التي انهالت على رأسي، أقول لك غير آسفاً.. وجدتَنِي أتحول إلي شخصٍ آخر وأرقدتُ ثلاثة أرواب مصابين يلزمون حجرتهم منذ يومين. وسوف أحكي لك شيئاً عجباً حدث في صباح نفس هذا اليوم. فقد أخبرني أحد “الهجامين” أن عفاريتاً تسكن في حجرة القيادة وأننا لابد أن نقرأ القرآن ونطلق البخور حتى نعفي إخواننا من أذاهم. ولمَّا استفسرتُ أكثر، أكدَّ لي بصفته يسكن في أقرب الزنازين إليهم أن رائحة عطرة تهف عليه في عز الليل وأن هذا -حسب اعتقاده- مبعثه الأرواح. لم أصدقه طبعاً لكنِّي وأثناء النقاش — أو سميه الشجار- كنت أتفحص الغرفة بعيني وأذني وكل حواسي.. لصقوا صورة بالحجم الطبيعي لصوفيا لورين خلف الباب عارية الأثداء، وسخان كبير يا عزيزتي يتركونه مشتعلاً طوال الليل ليدفئ الغرفة. أما عن علب السجائر وأكياس الشاي والسكر والقهوة والأكواب الزجاجية.. فحدِّثي ولا حرج. لمحتُ كل هذة الأشياء تحت الأسِرّة. تحوَلَت رأسي إلى رأس دجاجة، أنظر هنا وهناك وأُقارن بين مكانهم وبقية الزنازين. وسألت نفسي: ألم نأتي هنا لأسباب واحدة؟ ألسنا كلنا طلبة؟ وجدتُ بعض الجرائد القديمة وفوق أحدها يجلس الراديو الترانزستور معززاً مكرماً بجوار ماكينات الحلاقة، على الجدران ترقد شخبطة سريالية من زميلِك المجنون بالرسم، يرسم بصابون الحلاقة المستورد من الأنابيب رأسا،ً وهذا في ظني مبعث الرائحة التي تحدَّث عنها الرجل.

لا أدري يا بسمة.. كيف أصف لك مشاعري وقتها. أحسست لوهلة أني شحاذ ومتطفل ولا أنتمي لأيٍ من هؤلاء وأن أحداً غرر بي رغم أني في الخامسة والعشرين. أحسست بعدم الانتماء حتى لتلك القضية التي سُجِنَّا من أجلها. أحياناً أخرى أجد نفسي لعبة تافهة مثل اليويو تجذبها أحد الأرواب يحرِّكُها كما يشاء، يلهو بها، يكذب عليها، وما عليها سوى الانصياع والطاعة.

عزيزتي الجيوكوندة

لا أدري لماذا تُصرُّ شرائحنا الطبقية على مطاردتنا حتى هنا في السجن؟ هل لابد أن يشي بنا الكستور القطيفة المخطط بأننا من مستحقي بونات الكساء الشعبي لمحدودي الدخل؟ هل لأن أبي موظفاً بسيطاً كُتِب عليّ أن تقع زنزانتي بجوار المرحاض وتكتم صدري نوع آخر من الروائح؟

آهٍ يا بسمة… أثقلت عليكِ يا حبيبتي ..لكن ألطف شيء أن فكرةً مجنونة جاءتني. فحين كنت استمع لهم كنت أُسهِّي نفسي بتقشير ثمرة برتقالة كبيرة وعملت منها شريط طويل أخذتُ أعبث به دون أن أمزقه وبعدما ضربتهم، شبَكتَهُ فوق رأس صوفيا لورين وكتبتُ به: (أنتم خراء)، كما قالتها سيمون دي بفوار ذات مرة. لا أدري من أين أتانا علي وجه الدقة ميراث نفي الآخر؟ كيف توغَّل فينا حتى أصبحنا نحن أحد مكوناته؟ .. أصبح جزءاً من ملامحنا ومكوِّناتنا كَلَونِ جلودنا ومكونات الدم فينا.. ثابت.

جميلتي بسمة..

أنا لا أريد إفزاعك لكني أخبرك أني أرقد في مستشفي السجن. اعذريني لا أستطيع أن أُخفي عنكِ شيئاً. أرقدُ بسبب المغص الكلوي اللعين الذي خذلني وكاد أن يفجر جنبيَّ؛ فقد عاقبونا بعد الشجار بإغراق الزنازين بالماء في هذا الجو. وجَّهُوا الخراطيم من الباب ومن الشباك. كُنَّا نسبُّهم ونغني للشيخ إمام وأحياناً نضحك، لكن بعد أن زاد منسوب الماء تحتنا أكثر من نصف متر، شعرتُ بالعجز خاصةً والأرض أسمنتية لا تشربُ الماء. كل حاجياتنا غرَقَت. لم أُنقذ ولم أهتم بأن أُنقذ سوى القلم والورق. كنت أجيد إخفائهم تحت ملابسي داخل ورقة جرنال قديم مدعياً أمام الزملاء أني أعاني برداً كذوباً في صدري. لكن عند الفجر يا عزيزتي، اختلف الوضع، فقد نطق الروماتزم العائلي عند أخونا عبد الرازق والمغص الكلوي كان من نصيبي أنا وحلمي. للألم في الحبس وفي الأوقات الصعبة يا بسمة صوتاً جهورياً. أخذنا نخبط فوق بطن الباب وحديد الشباك بالقروانات الألومونيوم مدة، حتى تعطَّف مأمور السجن وطلب من حُرّاسِه نقلنا إلي عنابر المستشفي خوفاً من المسؤولية. تخيلي؟ خلَعنَا ملابسنا الغارقة وكدنا ننام عُراة أو نلتَّفُ بالبطاطين الميري الخاصة بالمستشفى وأمرِنا لله، إلي أن لمحنا مدداً هابطاً علينا من السماء.. أعني من نُزلاء الدور الثاني المرضى بالصدر. ربطوا بعض الملابس والغيارات وكأنها حبل غسيل قُطِعَ أثناء نشره. أخذنا نسحبه عبر النافذة بهدوء، ثم علا صخبٌ من نوعٍ آخر: الرغبة في الاحتماء من البرد وأثر الماء والألم جعلتنا لا نهتم بالمقاسات، نضحك على عدم انسجامها علينا. منظر الأرواب الكاروهات الثقيلة كان يروح ويجئ أمام عيني في بطءٍ مثل شخص سمين علقوه من عُنُقِه داخل دائرة حبل الإعدام. حاولي الرد عن طريق “ع” كي أطمئنُ عليكِ وعلي صحتِك الغالية وأرجو أن تخففي من معدّل السجائر.

اعتني بصحتك لأجلي.

نبيل مارس 1973

رغم شحوب الضوء والدمع الذي يسيل دون إرادة مني منذ بدأت في قراءة الرسالة إلا أن شعاعاً كان يتصاعد عبر أحرف كلماته الصادقة. كتابةٌ من نوعٍ جديد وكأنه يغمس القلم في قلبه ثم يكتب لتقرأ حواسي وأمتطي لُجَج الأحلام، أظل معلّقة كشُهُباً ينفلت من إحدى المجرات، يفقد انتمائه لكل ما حوله من ناس أو أشياء في واقعٍ راكد يرفع راية موروثاته المغلوطة منذ قرون. غلالة سميكة جاهلة تخيِّم حتى داخل العقول. يشرد عقلي، يهرب أعلى فأعلى، أصعد درجة فدرجة وكأنني أتسلق سلالم قَدَرِي. ماذا لو تنتابني فوبيا الأماكن المرتفعة مثل أمي فأسقط وتكون النهاية؟ أتَذَكَّر لينين في إحدى صباحات هروبه عبر الأراضي الجليدية البعيدة التي كانت في الأصل نهر، هي الآن لا تشبه الأرض ولا تشبه الماء، يسير عليها من اليوم الفائت لا يخشى سوى الميتة الحقيرة إذا ما انصهر الجليد تحت قدميه. هو مثلي يخشى الميتة الحقيرة، رغم انه لا يحفل بالموت. ماذا فعلتَ بالدنيا أيها الرَبعَة؟

***

بدأت عايدة، نزيلة عنبر الدعارة والتي نقلوها بالأمس إلي عنبر الصدر بالمستشفي، بدأت تغني. تعتدل فوق قاعدة الشباك، تُخرِجُ رجليها عبر القضبان الحديدية. من طريقة جلوسها وشرودها وهي تتحسس نعومة جلدها واللعاب الذي يسيل علي جانبي فمها نعرف أنها تعاطت البرشام، (أبو صليبة) أو (الاسبراكس). كل مرة تنتقي أغنية حسب حالتها المزاجية، تشرد وكأنها تستجمع أحزان عمرها.. الأربعين عاماً التي عاشتها، ومن ضحكاتها الهستيرية أو ارتخاء جفنيها أحياناً كنا نعرف أن أثر البرشام الذي تعاطته يعمل. كانت في هذا اليوم تنظر إلى السماء، ترشق عينيها في القمر الذي كان بدراً وأخذت تغني وهى تميل برأسها تقبض بكفيها أسياخ الحديد الغليظة المزروعة في النافذة:

حبيبي البدر لما يبان

وعوده الغصن لما يميل

خدوده الورد في البستان

عيونه السحر فيها جميل

كانت تغني وتبكي، ثم هدأت بحة صوتها وصمتت صمتاً طويلاً.. خرجت روحها عبر القضبان وساعدها العقار في الانفراد بالحالة التي يصبغها عليها النظر للقمر البدر في لحظات الهدوء والشجن واستدعاء الذكريات المريرة المغموسة بذُلِّ الحبس والندم. ظلت حجرة المأمور ساهرة والجلبة ناحية مكتبه ملفتة للنظر إلى أن أُغلِق المحضر في ساعته وتاريخه.

نوبة فلسفية حزينة ملأَت فاتن إلى حد البكاء، سألتني: يملؤني يقين أنهم قبل أن يزجوا بالناس خلف تلك الأسوار الحقيرة يباعدون بين أرواحهم وأبدانهم بطريقة لا يعلمها إلا الله. يجردونهم من الأهل والأمن والونس لا يتبقى لهم سوى الوحدة والانكسار والمهانة والانتظار. إلى متي سنظل هكذا؟

كاد داخلي أن يجيب دون صوت: إلى أبد الآبدين، فنحن ندور في الفضاء نحتضن الكلمات نرتشفها ونأكلها ونرتديها تماماً كما تفعل الحكومات. نتشاجر بها ونحب بها ، نسخر بها من الناس والاتجاهات السياسية المختلفة معنا ومن القيم ومن كل شيء ونقيِّم بها تجارب الشعوب. كلمات .. كلمات .. غلالاتٌ سحرية لها كلابات طويلة آسرة تزيد من أطوالنا الوهمية.. ترفعنا عن الأرض نطير في الفضاء، نلمح خطيئة آدم وحواء، والكتب السماوية المقدسة ينثر الهواء صفحاتها مع أوراق التوت بينما داروين يؤكد لتلامذته أن الإنسان أصله قرد.

عبر بكائها تساءلت فاتن لماذا يخطئ البشر؟ لماذا يوجد الفقر بلونه ورائحته وأمراضه؟ ماذا لو كنَّا في عصر ابن الخطاب؟

ألمح تشتتها عبر ألمها ولا يسعني التدخل.. يكفيها ما تحس به. قالت وهي تجفف دمعها:

- ماذا سنفعل نحن لكل هؤلاء المحرومين البائسين؟ أتدرين؟ أرى الجميع في الجامعة يتحدثون، بعضهم يتَّسِم بالموضوعية والرغبة في الفعل لكن أغلبهم لا يجد نفسه إلا داخل أغلفة الكتب.. يتحول الواحد منهم إلى كتب متنقلة يرصَّها بين أسنانه، مفردات الثقافة والسياسة والمذاهب تحشو داخله حتى أني كنت أتخيل أحياناً أن الواحد منهم لو يتجشأ سوف تخرج من جوفه فقاعات لها هيئة الحروف، لو أُتابعها بعيني في اصطفافها حسب قوانين الجاذبية لوجدتها تتقارب من بعضها البعض لتشكل عناوين الكتب التي أصبحت على الموضة مثل الملابس. أحسُّ أن اختراع الكلام كان لعنة؟! ما رأيك، أو ليس الأغبياء أكثر راحة؟

فوق الحجر الكبير جلَسَت فاتن بجواري فَرِحةً بالشال الصوفي الذي صنعته لها أم مختار.. تلُّف رأسها به. تجلس المرأة أمامنا تتربع الأرض محتضنة ذراعيها. بعد غدٍ سيأتي وحيدها مختار لزيارتها. كانت تُثنِي علي المأمور الذي وافق علي طلبها بإرسال إشارة إلي دار رعاية أبناء المساجين في بنها كي يرسلون ولدها لتراه، ولو كل ثلاث أسابيع. قالت: “الحرمان من الضنى يا بنات أصعب من أي سجن أو تعذيب”. محكوم عليها هي وزوجها بالأشغال الشاقة المؤبدة. لم ترى مختار إلا مرة واحدة منذ ثلاثة سنوات. تضحك في شرود، فتبين السِنَّة التي تركب فوق الأخرى تعطيها شيئاً من الرقة. رفضَت أن تأخذ مقابل الشال الذي صنعته بإبرة الكوريشيه. فكت يداها وتناولت مسماراً ملقياً أمامها، تعبث بيدها علي الأرض ترسم دوائر متتالية.. قالت: عارفة يا أبلة، أول مرة أشوف الواد الزيارة اللي فاتت. كان بقى لي عمر ما شفته يا ولداه مش ثلاث سنين.. ضليت معبّطة فيه يمكن لنص الزيارة مش عارفة أتكلم. مش قادرة، بس الواد بكى.

تجفف دمعها بطرف طرحتها وتكمل: قعدت أفهِّمه “ أنا أمك يا نن عيني.. نسيت أمك؟” قال لي: “عارف وعارف إن أبوي كمان في سجن الرجال. حبسوكم بعد ما كتلتم جدي”.. كيف بالله عليكم يخبِّروه بالكلام ده هناك؟ تدخلت فاتنتسرِّي عنها بلطف: الواد زي القمر ما شاء الله.. بس الشعر الأصفر منين؟ ردت أم مختار: وارثه عن الفقر بعيد عنك، العيال في بلدنا في الصعيد كُلَّاتهم شعرهم أصفر زى وشهم.. قلتُ: يضايقك لو تحكي كيف “كتلتم” الجد؟ ضحكَت لتقليدي لهجتها وقالت وهي تفرك كفَّيها تُداري لسعة برد خفيفة تُلِّم بها لتَذَكُّرها الحدث الذي غيَّر مصير أسرتها:

- كل شيء كان سهل في الأول. الراجل الكبير كان معدِّي الستين وعنده بيته وطينه وبهايمه ومال كتير.. مبسوط يعني، وإكمِّن ولده -أبو مختار– كفيف، طرده بره البيت والغيط بعد ما إتجوز مرته التانية. عشنا في عشَّة غَرب الزريبة علي مساعدة وِلد الحلال من الغريب والقريب.. ضل يصنع مشنَّات وأقفاص وأنزل أبيعهم في الأسواق –حدانا في كل بلد سوق، السبت هنا والحد هنا- بس العيشة كانت صعبة قوي والواد كان بيكبر في بطني عاد. القلب القاسي يعلِّم الكفر يا أبلة، والعدل حلو برضه. عمك أبو مختار راح له يتحايل عليه: “أني كفيف يا أبوي زى ما أنت خابر.. بلاش البيت والغيط، إعطينا قرشين نعيش بيهم زى الناس، نجيب أوضة بمنافعها، المَرَة حبلى”.. مفيش فايدة واصل. مِرَات أبوه كانت عقربة بعيد عنِّك، خافت نسكن معاها وأخلِّف أني، والراجل يموت ويروح منها كل حاجة. قلت لأبو مختار، ده مش عدل ربنا أبداً، وإن الولية دي مَرَة ظَلُومة. ودبَّرنا نِخلَص منها. لكن القَدَر بقي.. حتى القدر عاندنا يا أبلة والولية انتصرت علينا أول وآخر.

همست فاتن في أذني: سوف أؤلف أفلام ومسرحيات عندما أخرج.. تكمل أم مختار:

- قلنا لنفسنا هي ضربة فأس واحدة وبيد قوية نِخلَص منها العقربة دي ونرمي الفأس في الترعة وخلاص ولا من شاف ولا من دري، ولا حد حيشُك في واحد ضرير يقتل مرات أبوه ولا في مرته الحبلى على آخرها. تاري الولية لجل النصيب راحِت فَرَح وِلد أخوها في ديروط ونام الراجل الكبير مكانها، وهي ضربة واحدة بعدها بنكشف الغطا لقيت الرأس في ناحية وجتته في الناحية التانية. قلت لأبو مختار، اندهل بعيد عنك.. مصدقش نفسه.. “يا راجل فز قوم قبل ما حد ياجي.. ضل يقول كلام خايب وجعد يبكي يا ولداه.. واني بقى تقولي سكاكين بتقطع في بطني.. بقيت مش عارفة أعمل إيه، أمشي وأفوَّته؟ وأمشي كيف والواد كنت حاسة برأسه بتطل من حالي؟ نهايته. عمك أبو مختار اعترف بكل حاجة، ووضعت وسابو الواد معاي لمَّا قرب يقفِل السنة. دلوقت عنده أربعة وشوية.

أتأمل وجهها الخمري الممتلئ والوشم الأزرق يغطي شفتها السفلى وذقنها وأحس بالعجز والخوف.

وقفَت فاتن ترقب الحركة عبر نافذة الكانتين بينما يرقد البراد الكبير يقتعد أحد عيون الموقد. اختبأتُ خلف أجولة البطاطس أكتب الرد علي خطابات نبيل. أحس بقرب تلاشي جسدي مع كل حرف. أعرف أن فتاي يمسسه بيده، يقرأه، يطالعه بعيونه التي أحبها.

رفيقي الأعز..

تتوه الكلمات مني كما تتوه العدالة في هذا الزمان. أفتقدُكَ كثيرا. أبحث عن الحيلة تلو الحيلة لأشغل رأسي حتى لا يمزقه التفكير فيك وفي أحوالك وصحتك، وأيضاً في أمي. كلما سمعت حركة المزاليج والمفاتيح الصدئة تعبث في جوف الأبواب، أحس بك آتياً، أُطمئِنُ لهفتي بلقاءٍ أُسطوريّ قريب. أراكَ في كل الوجوه، أسمع همسك، فتهدأ حيرتي. أمس وقفت أُطارد بعيني أسراب أبي القردان الشاهقة البياض حول هامات الأشجار التي تبدو بعيدة. النسمات كانت تمسح وجهي في حنو امرأةٍ ملهوفة لضم وليدها. ومن فوق نفس النافذة ألمحُ بعض القوارب تقف مهتزة عند الضفة البعيدة في دلال. تخيَّلتَني أطير في السماءِ طويلاً قبل أن أحطُّ فوق شباك زنزانتك، أُمسك بيدك، أتزوَّد من رؤية ملامحك، أسمع همسك.. فأغيب. أمسح علي جسدك بكُلُم العشق فيطيب وتتعافى كما كانت جدتي حين تقرأ القرآن وهي ترقي الصغار فيهدأون ويروحون في النوم المريح.

كيف حالك الآن؟ قرأت خطاباتك الرقيقة وكأني أعيش معكم، فما يدور عندكم لا يختلف عما يحدث عندنا. فمثلاً قررت حجرة “الرياسة” هنا إعلان العصيان وعدم الدخول للزنازين وبعد ذلك سنعلن الإضراب عن الطعام حتى نحرك ركود الماء الآسن الذي يحيط بموقف الحكومة منّا، فتأتي النيابة أو يستدعوننا إليها.

لا أدري كيف لمجرد أني أقرض الشعر أحياناً وأتذوق الفن التشكيلي والموسيقى وأحب هذا البلد، يدفعون بي وراء القضبان؟ وأنت ترسم الكاريكاتير وتكتب الأشعار، فتضمك زنزانة باردة وتحوِّطُنا أسوارٌ عالية؟ تمتنع علينا الحياة الطبيعية العادية لأننا نذكر اسم بلادنا بكل الحب؟

هنا صديقي العزيز رأيت أشياء وسمعت عن أشياء وفهمت أشياء أكثر. أرجو أن تطمئنني عليك وعلى صحة الجميع كما أرجو أن تعطيني رأيك في الشعر الذي تسميه فاتن “أشعار العفوية”، وجدتني أكتبه بالأمس دون سابق نية:

الأرض بتبكي بدمع العين

ينزل علي جرحي المفتوح،

يتلهلب

ويقيد الشوق

ويزيد بي الوجد وأشوف بكره

طيفه بيتهادى .. بينده لي

وإن زاد بي حنيني

من طول الغربة لحضن حبيبي

يسرح بي الشوق.. على مدد الشوف

طيفه بيجيني، يغني لي

أسرح ف ألحانه الوردية

وأتمنى لبلدي الحرية

وأسمع بآهات الحنيّة

الناس بتغني معديّة

عن بكرة وعن حب ولادنا

لتراب الأرض المصرية

عن غربة هانت أيامها

من خلف السور… للحرية

كنت بين وهلة وأخري أتلفت ناحية فاتن أطمئِّن على أن أحداً لن يكتشف ما أفعله، فالورق والقلم من الممنوعات. وأنا أنظر إليها لمحتُ اهتزاز جسدها.. تبكي، تعتمد بيديها إلي تلك القضبان الداخلية للنافذة تخفي نشيجها. خبأتُ الرسالة في ثنايا ملابسي وأنا أخرُج من مخبأي مذعورة. وبدون أن أنطق، أمسكتُ بالبراد ومددت خطوي أوزع الشاي على الباقيات في حين دخلت هي إلي حجرتنا. جلَست فوق فراشها يتساقط لؤلئَها في صمت. جذبتُ الباب خلفي وجلستُ في مواجهتها. رأَت قلقي فأعفتني من السؤال. تجفف دمعها وهي تشير في اتجاه الردهة. نظرتُ أنا حيث أشارت، أنصتُ دون تعليق:

- صديقتِك التي يعلو صوتها الآن بلغة الكبار وتتشدق بكلمات كالقادة والمثقفين، دعتني يوماً لزيارة خطيبها بعد الإفراج عنه بأيام. لم أكن أريد الذهاب فأنا لا أعرفه جيداً، لكنها أحرجتني أمام خالتي بإصرارها. ارتديتُ ملابسي وذهبتُ معها بعد أن وعدتُ بعدم التأخير. احتفت بنا عائلته وخصوصاً شقيقته. مع أكواب الشاي، أدار مؤشر الراديو علي موسيقى كلاسيكية وأنتِ تعلمين مدى عشقي لصوت البيانو اللعين الذي ساهم في تخدير أعصابي وعقلي وقتها . كانت صورة مايا فارو تنظر ناحيتي عبر البورتريه الرقيق الذي علَّقه خطيبها في مواجهة المقعد الوثير الذي أجلس عليه. بعدها قام يُسمِعُنا أحدث الاسطوانات التي أرسلها له شقيقه من موسكو. الموسيقي الملائكية تتعالى عبر الجهاز الفخم، حالمة، جميلة، آسرة، أمدَّت رأسي بخيوطٍ عنكبوتية شفافة، فسرحت في البعيد، طائرة، حائرة بين طبقات السماوات العليا وهِمتُ على أرض التمني.. هل سأقابل يوماً الرفيق الحبيب الذي أحلم به؟ الدنيا حولي لها لون ورائحة الورود، حتى الجو كان مزاجه طيبا وكأنه لم يعرف القسوة يوماً، إن في شتائه أو صيفه حتى اعتقدتُ لحظتئذ أن نسيماً حانياً يلُّف الكرة الأرضية بعد أن جرَّد خط الاستواء من لهيبه وقيظه. خرجتُ من غيابي تتسع ابتسامتي وأنا أرمق دورانهما في منتصف الحجرة، يرقصان علي نغمات الموسيقى. إيقاع الأقدام ينسجم مع كل ما حولنا: متى أجد من أحبه ويحبني؟ يفهمني قبل أن ينطق لساني، يحتويني بعدالةٍ غير مسبوقة؟ أُبدل ساقاً فوق الأخرى، أعتمدُ بذراعي إلى جانبيّ الفوتيه، أمتلئ بالأمان قدر امتلائي بالتمني.. اتسعَت ابتسامة مايا فارو وكأنها تدعو السماء أن تستجيب لي، تتلقف عبر الصورة نظراتي الباسمة المتوترة وتردها إليّ وكأنها تحس بي.

صديقتك وخطيبها جلسا بعد الرقص الصامت على حافة الفراش، وجهها يلتصق بوجهه الهائم، عانقها في ليونة فرمت برأسها فوق كتفه وتركته يداعب شعرها الأسود الطويل بأصابع تائهة بينما احتدَّت نظراتها تجاهي لوهلة.. نظرة غاضبة ثاقبة كريهة لم أستطع استيعابها أو تفسيرها لكنها لم تدم أكثر من ثانية أو ثانيتين. بعدها انفرجت أساريرها حتى كدت أشكُّ في نظري وكل قواي العقلية. جذبها ناحيته أكثر، طول الوقت يعبث في شعرها، رفع الغطاء عن الفراش المرتب، أدخلها بجواره ثم سحب الغطاء حتى الرأسين ودون أدنى قلق لوجودي أو نظراتي وراحا في براحٍ صحراوي. خذلَتني كل حواسي، تثاقل جسدي حتى خلته أطناناً سوف تهدم البيت أو تملأه بالشروخ لكنِّي أحسست بفحيح كائنٍ جهنمي خلفي يدفعني يلقى بي قذفاً عن بُعدٍ خرافي من المقعد إلي الشرفة. قبَضَت أصابعي علي الجدار تلهثُ أنفاسي وأنا أحاول أن أتمالك. الأسئلة تحرق داخلي وتشوشني.. ما الذي يفعلانه بي؟ لماذا تمَّت دعوتي؟ ماذا أفعل الآن؟ ما صلة ذلك الذي رأيت بالثورة والقضية الوطنية؟ ما صلة كل هذا بالنمط الروسي أو الماوي أو حتى التايواني؟ كل الشعارات التي ندافع عنها في الكليات بأجسادنا؟ ونذاكرها؟ اقترب الحفيف مني مرة أخرى وألقى بي إلى الغرفة في سرعة مجنونة. انتزعتُ حقيبتي وتركتُ الباب خلفي مفتوحاً ونزلت…

تنهدَت فاتن شاردة تمجُّ نفَسَاً عميقاً من السيجارة الثانية التي أشعلتَها لها، ووسط اندهاشي أكمَلَت: في النهار التالي جئتك لأحكي لك ما رأيتُ، فوجدت المؤتمر المفتوح ثم الاعتصام وبقيت معكم.

الآن عرفت سبب نفورِك منها ومن الذهاب إلي حجرتها.. أما هي، كأن شيئاً لم يحدث وتتحدث في السياسة وعن المبادئ والمُثُل العُليا.

كادت تفرسني يا عزيزتي. كيف يصدقهم الناس؟ هل يصدقون أنفسهم؟ أتعرفين أن ما يشغلني حقاً، أن الشيء الحقيقي، القول الحقيقي، حتى الإلحاد الحقيقي، يكاد من قلَّتِه ألا يكون موجوداً.

عند موعد أخذ التمام تجمَّعنا في الحوش أمام المستشفى إعلاناً منا برفض الدخول إلى الزنازين، ترتفع روحنا المعنوية تصل إلى السماء. إحساسٌ بالراحة لمجرد التغيير ولا تهم النتائج بالمقارنة بالركود وموات الوقت وثبات الأحداث؛ نفس مواعيد فتح وغلق الزنازين، لا توجد زيارات، لم تعيرنا النيابة أدني إلتفاتة، حتى كتب الدراسة لم تصلنا وكل ما نتناوله نسحبه على النوتة من وسيلة وغيرها من المذنبات الثقيلات.

السجانات تندهش لوقع المفاجأة، المرة الأولى في حياتهن الوظيفية التي يواجهن فيها عصيان المذنبات. جرت إحداهن إلي المأمور غير مصدِّقة بينما كنا نتلهى بأغنيات الشيخ إمام في ترقُّب هادئ، تمتلئ رؤوسنا الصغيرة بالتخمينات، أتأكد من وضع السوتيان الذي يحمي خطاباتي وأَحبُكُ ملابسي داخل الجينز ثم همست لي فاتن بأن نذهب سريعاً نشاهد زنازين التأديب التي ستتلقفنا حتماً كعقاب وإجراء وقائي حتى تصل التعليمات إلي المأمور.

***

كانت نوال نزيلة عنبر التسول تسير في بطء كسِير كعادتها، تُخفي فاتن عيونها بكفها كلما صادفتها، يقتلنا الإحساس بالذنب والتقصير وكأننا مسئولين عن كل الكون. تمشي المرأة طوال الوقت بخَلَقة واسعة مفتوحة الصدر ممزقة تكشف لحمها، لا يستر بدنها شيئاً سواها. تسير حافية يزرَّق لون جلدها الأبيض المتسخ، تزرع عيونها في الأرض، ينطق فيها الرجاء:خذوها بقي.. خلوني أروح أشوفه.. خدوها بقى.

نرقبها وهي تجلس يطول صمتها أو يقصر فهي دائمة البكاء. عندما أتوا بها في حصيلة الإيراد الجديد –كما أخبرتنا أم مختار- كانت تجلس علي الرصيف بالقرب من موقف سيارات الأجرة تنتظر وليد ابنها الذي تحايل والده العربي الثري وخرج معه للفُسحة وسافر دون عنوان إقامة تعرفه. تزوجها منذ ست سنوات يأتي مرة أو مرتين في العام يدفع أجرة الشقة المتواضعة ويترك لهما ما يعيشا به. هذه المرة نزل إلي القاهرة مصاحبا إحدى زوجاته لإجراء عملية جراحية لها. ذهب الرجل وأخذ صغيرها معه فلم تحتمل. ذهب عقلها معه وتظن أن الروح تقف في حلقها تطلب ممن تصادفه أمامها أن يأخذها: خذوها بقى عشان أشوفه.

***

جاء المأمور يتأبَّط صولجانه ومعه فريق السجانات الصباحية والمسائية بعد أن رفض انصرافهن. وقف في وسط الجمع ثم اختلى بليلى وآمال يتفهم الوضع، قالت ليلى: يافندم نحن لسنا في خصومة مع إدارة السجن ولكن مع الحكومة التي تركتنا ونسيتنا لديك. نحن لسنا محكوم علينا بأية أحكام ويجب أن تساعدنا في استقدام النيابة وحتى يتم هذا نعلن رفضنا الدخول للزنازين. وقف الرجل في ثبات مزعوم وهلة ثم همس في أذن الأخصائية التي أسرعت إلى سعاد عشماوي كبيرة السجانات وأمرتها بغلق الزنازين وتركت باب الردهة الخارجية مفتوحاً. مشى غاضباً في اتجاه مكتبه بينما جلسنا مقتربين من بعضنا البعض نغني فرحاً بهذا النصر المؤقت:

صباح الخير علي الورد اللي فتَّح في جناين مصر

صباح العندليب يشدي بألحان السبوع يا مصر

صباح الداية واللفة

ورش الملح في الزفة

صباح يطلع بأعلامنا من القلعة لباب النصر

دقائق نقضيها في البراح، أسراب العصافير تتجه إلي الأعشاش عند شواش الأشجار، بقية النزيلات بالعنابر تنصت، تترقب. القلق والتوجس من ردة فعل إدارة السجن ينسدل أمام عيني كغيمة كثيفة تشوش على رأسي. مرت نصف ساعة طويلة وجاء الرجل ومعه فرقة الحرس الخارجي من العسكر.. يمشي الجميع؛ الحرس والسجَّانات بطاقميهما في دائرة واسعة حولنا بهدوء. يطوقوننا. أسمع ازدراد الريق في حلقي وصوت دقات قلب فاتن التي تلتصق بكتفي. السخونة بدأت تتلبسنا وكأننا داخل حريق غير منظور، نحتمي بالأغنيات وبأقرب الأبدان.. ماذا سيفعلون بنا؟

نفخ قائد الحرس في صفارته المعدنية فانتشر الرجال جرياً هذه المرة يسوقوننا إلي داخل الردهة، يرفعون السياط والقوايش والخرزانات بينما علت بحة صوت آمال: انتشرووووووووا.

أرقب الجميع حتى لا أذهب بعيداً، لكن أين ننتشر؟؟ الردهة طويلة ضيقة تمتلئ بنا وبهم الآن. كدت أضحك حين وصلني صوت علوية تلخبط في الأغنية التي كانت تحفظها جيداً، أمسكَت عشماوي برأس علوية بينما أقعد ماجدة رجلين من الحرس علي الأرض لِصق الحائط المواجه لدورة المياه. لم يسعفني العدد الكبير المحتشد حولها من الرؤية بوضوح.. يا الله.. كيف تحتمل كل هذه الأيدي والأقدام؟ حمدت الله أن شعري قصيراً جداً ولن أراه كُتلاً متناثرة على الأرض مثل شعر ليلى الأصفر الطويل.

يا الله..

الكل يضرب بثقة متناهية كيفما اتفق، يمّ من السباب يغرقنا بفيضه. المرة الأولى التي نتساوى فيها مع نزلاء الأحكام من مجرمات وداعرات بائسات. فرقعة الكرابيج الطويلة اللامعة تلهب جسدي، صهد زائداً يلفَّني. زلزالاً يضرب. نجري هنا وهناك حسب خطة الانتشار لكن داخل مصيدة الرُدهة، عشماوي تلف خصلات شعر زينب حول كفها بعد أن فرغت من علوية وتركتها مغشياً عليها، وترقد لوزة فوق فاتن التي تحاول أن تحمي وجهها وتجري من قبضتها.

الطيور العائدة إلي أعشاشها بعد دخول المغرب تزيد من سرعتها في هياج جماعيّ بعد أن أصبح صراخنا عالياً، تختلط العصافير بأبي قردان والجوارح يصنعون دائرة فوق سماء السجن، ينظرون إلى مصدر الصراخ وصعدوا إلي أعلى. أتذكر الطير الإله. أراه معهم يبكي، يرفض أن يحط حتى الموت. الضرب الجماعي تشتد إيقاعاته، قَرصُ أطراف الأثداء يتبعه صراخٌ حاد؛ ضرب حريمي يَخبُرُ الشدَّ والعضَّ وخمش الأظافر. أصبحنا كلنا نجري وكلنا عيون مفتوحة. الجند تلهث في صمت. نفخ الرجل في صفارته فَجَرَت عشماوي تفتح الزنازين. الأجساد تُجَرُّ سحلاً علي الأرض يلقون بها داخل الزنازين.

عندما خطّطنا للعصيان كنت أقف مع سهام في المقدمة كرأس حربة والجميع يصطفون خلفنا. ما الذي حدث؟ الانتشار كان خاطئاً؟ أم أن كروية الأرض فاجأتنا بلفة أسرع قليلاً عن ذي قبل فلم تتم الأمور كما أردنا؟

جذب أحدهم الباب خلفه بعد أن ألقوا بي داخل الزنزانة، رأسي علي الأرض. فتحتُ عيني عبر جزء صغير لم يكن متورماً. لمحتُ رُخاً يقف في سقف الزنزانة، هبط نحوي قليلاً، غافلتَه وأمسكت في قدميه القويتين وهام بي عالياً يتساقط دمعي ساخناً يسيلُ فوق الجروح والكدمات المتناثرة، يضاعف ألم البدن الذي كومته النعال والأيدي. تغمض عيني دون إرادة مني، ليته يعرف لغة التمني يحملني دون أن أنطق ويطير بي بعيداً عن هنا يلقي بي في جوف النهر. أطفو بعد أن تهدأ كدماتي ثم أغفو علي وجه ماء النيل أو أموت.

صرخات المصدورات بالدور العلوي بالمستشفى تصلنا مع سعالهن الدرنيّ الموجِع، تبكي النسوة من أجلنا. أسمع صوت المفتاح الضخم يدور في جوف أبواب الغرف ثم في صدر البوابة الحديدية في الردهة الخارجية. الصمت المطبق يلفنا، صوت انسحاب الأحذية الميري يتباعد في اتجاه حجرة المأمور ناحية الباب الخارجي للسجن.

من الحجرة المقابلة وصلنا صوت آمال يعلن الإضراب عن الطعام ابتداء من الغد: “إضرابا تصاعدياً تبدأ قائمته بسمة وفاتن، إضرابُ حتى الموت أو التحقيق معنا أو إطلاق سراحنا”.

ضاق الحيز المفتوح في عيني عن الدقائق القليلة الماضية سمعت من تقول بجانبي “حوِّل” وعمَّ الصمت ثانية لكنِّي تخيلت صوتاً يصدر عن رائحة العرق الميري المختلط بروائحنا أثناء محاولة الانتشار.

في الصباح احتضنَّا أنا وفاتن حاجياتنا مع البطاطين الميري، يودِّعنا صوت البنات بالهتاف والأغاني بعد أن كدَّرتهم الإدارة وحرمتهم من طابور الشمس اليومي. سارت أمامنا السجَّانة مسئولة التأديب يغطي الغناء علي نهنهة المصدورات:

يا مصر قومي وشدي الحيل

كل اللي تتمنيه عندي

لا القهر يطويني ولا الليل

آمان آمان بيرم أفندي

نظَرََت لي فاتن ثم همسَت في أُذُني: الدنيا كلها عانت بعون الله من هذه “الآمان آمان”. ألا يعرفون أن سبب بلاء الدنيا هم الأفندية؟

كانت تخفي عينها اليسرى المتورمة من الشمس، أسير بجانبها أحجل في مشيتي لتمزق أصاب رَبلة ساقي. ضحكت فاتن علي مشيتي وعلَّقت: إن شاء الله إذا خرجنا من هنا أحياء سيرسلوننا إما إلى التأهيل المهني لذوي العاهات أو التأمين الصحي.

قلت لها: ماذا لو وجدنا أمي ونبيل ينتظروننا داخل التأديب؟

كان الباب الخارجي لزنازين التأديب مفتوحاً في انتظارنا. تجلس نوال أمامه تزرع نظراتها الكسيرة في وجه السماء، تشير إلى عنقها الأبيض القصير وتتمتم: خذوها بقى.

قالت فاتن في لهجة مسرحية لكن بطيئة:

في بلدٍ يُسجَنُ من ليس معه إثبات هوية يصير حال البشر هكذا؛ فأنا أكاد لا أرى وأنت تتخيلين أشباحاً ليل نهار.

قلت لها: أسميتُ نبيل “الفنان” وأنتِ سيصير اسمكِ عندي “الفيلسوفة”. على إثر كلامها أخذت التساؤلات العبثية تدوِّخُني .. ماذا يفيد الشرطة والجيش والحكومة ووزارات العدل والريّ والمالية والصناعة والزراعة والشؤون.. ماذا يهمهم من القبض على نوال؟ من أجل ورقة إثبات الشخصية يجلب المخبرون الناس.. يعدونهم بالرأس وبالنفر لإرضاء رؤسائهم، كلما زاد العدد شهدوا لهم بالكفاءة. تماماً كما فعلوا مع سنية العجوز التي ما عادت قادرة علي الكلام، كانت تقف بجوار زوجها العليل في طابور صرف الأدوية أمام صيدلية القصر العيني، ولما طال الوقوف جلست تريح أقدامها المتعبة علي الرصيف المجاور تنتظره. قبل أن يتناول الرجل زجاجة الراوند بيده لمح زوجته يزجون بها داخل سيارة البوكس بعنف، وسط الشتائم البذيئة والدهشة. أخذ يصرخ وينادي باسمها ويقسم للواقفين بكل إيمانات المسلمين أنها زوجته وأنها لم تفعل شيئاً. دفعوه للوراء وسط التهديد بأخذه معها وكان ينظر إليها باكياً وهي فوق كنبة البوكس ساكتة مرتعبة.

استقبلنا الظلام في غرفة التأديب رغم عدم انسحاب النهار. صوت البنات يصلنا عالياً:

مين اللي يقدر ساعة يحبس مصر؟؟

ترد عليهم الفيلسوفة بأسى: الحكومة!!!

النافذة أمامنا قزمية تقترب من السقف. خيوط الشمس مختنقة تفشل كلما حاولَت الوصول. صوت لوزة تنهر نوال وتأمرها بالذهاب بعيداً عن التأديب.. جردل البول يقبع في أحد الأركان، حاشيتان من القطن الهزيل ينطق فوقها الاتساخ كسهمٍ فسفوري يعلن عن نفسه، يقلِّ وزنهما عن البطانيتين، وحواف نهايات آثار البول الغامق القديم الخشنة ترسم وحدات سريالية عفنة الرائحة. شدَّت لوزة الباب خلفها. ارتعبنا عندما لم نجد أثراً لسلك كهربائي أو مفتاح النور. أخرجنا زادنا من أمشاط الكبريت واكتشفنا أن أعمدة الإضاءة الخارجية خلف سور السجن سوف تتساقط مرغمة عبر الفتحة العلوية لزنزانتنا. أَلَم الكدمات يغطي مساحة جسدينا. الصداع يمسك برأس الفيلسوفة فعقدت شال أم مختار حول جبهتها وأحبكته جيداً. تمددتُ بجوارها أحاول أن أقرأ بقايا خطاب نبيل بعد أن طُبِعَ عرقي فوق الحبر وضاعت أغلب كلماته عدا قصيدته وجزء من الخطاب. أقرأ وتسمع فاتن:

(أُعلِّقُ على الجدار الجامعي أوهامي وبراءتي

يتفرجون عليها، وينتظرون البقية في الأسبوع القادم

أرصفة المقاهي.. مجالي الحيوي

أحتسي فيها أكوابُ الصَخَبُ السام.. حتى الإدمان

وفمي بوقٌ ينفُثُ الدخان والأفكار الطارئة:

هل ينفصل الشكل عن المضمون؟

يا طير الحب الأوحد

إني منتظر خارج كل الأزمان

خارج كل الألقاب..

حتى حين تعود إليّ

تبدأ في الزمن الأول

تغرس في اللقب الأول

أبدأ عمراً أول

يسكن قلب الأشياء.

على الجدار الجامعي

أُعلِّق سخطي العشوائي.

ما رأيِك يا بسمتي الحبيبة..

ما عدت أخجل كالسابق من البوح بمشاعري، لكن ما يستنزف عقلي وأعصابي هو كيف سأقوى علي مواجهة الحس بالافتقاد في الأيام الثقيلة القادمة؟ إنني بك يا حبيبتي كائنٌ آخر أكثر حِساً وشفافية، يحب كل الدنيا إلا من أخذوكِ مني وباعدوا بيننا. حسٌ بثِقَل الأيام ورتابة كل دقيقة وكأنها الدهر.. ما أسعدني بك رفيقة. أحسدني علي رقتك ودفء مشاعرك وأحب خجلك الطفولي الجميل. لا أظن أن هذه الأيام الصعبة ستصبح يوماً ذكرى، إنها جزءٌ حي مني لأني أحبُّك مِلء كياني، إلا إذا أصبحتُ أنا نفسي ذكرى وتركتُ عالم الأحياء).

انتفض قلبي يقول متوسلاً “لا.. لم أفرح بِكَ ولم تفرحُ بي بعد يا حبيبي.

تركتُ فاتن تنام هرباً من الصداع، أمَّا أنا فلا أحس بأعضائي، يأسرني خيال نبيل.. أموت ألماً. رغبة حارقة في النوم تقاومني وأقاومها وأثناء صراعي أحسسته ورأيته، إلى الزنزانة أتى. قال باكياً: أفتقدك. كان يمد ذراعيه تجاهي،

قلتُ: في زحام الأيام شرد مني العقل. تاه. تخبَطَت أقدامي وأنا أبني كهفاً يأويني. كنت أراك دوماً عندما أشتمُّ رائحة الغربة النفاذة نافذة من صدور الهائمين فوق سفينك، رائحاً كنت أَم غادياً كانوا يمرون بأرضي، أفتح لهم جُدُر القلب فيطمئن كلٌ على ذويه.. تهدأ أنفاساً لهثت لقرون على هدهدة ضربات قلبي.

قال: جسدي أصبح يرهقني عند الطيران، أجنحتي باتت أضعف. دوماً كنت أسبح عكس التيار. لا أشعر إلا بالتعب الآن وبكِ وأريدُكِ. لا أرى سواكِ. في القلبِ نظرتُ إليكِ تَحبِي أقدامكِ فوق الجمرات. فزعٌ يكبر عمرك، يرتسم فوق ملامحك، يجأر، يقلقني . أبسِطُ قلبي فوق القلب يستشعر كل منا الدفء، تعلو أنفاسِكِ كما أنت الآن، تغفو أهدابك الملتحفة بكفي. شيَّعني حبُ الأرض إليك فأتيت.. فتعالي.

قلتُ: عرفت كيف تكون الصلاة. صليت كثيراً.. خاطبتك، جادلتك وسمعت ردودك ترقد في أعماق أُذُني الآن. لم تكف عن التساؤل ولم تكف عن المناورة، فبكيتُ جهلي.. في كل الأوقات بكيت. أقف فوق سفين اغترابي، يتكاثف الغمام حولي، يصنع جُدُراً سميكة تمنع عني الناس. بكيتُ وأنا أتمنى أن أتُوهُ داخل إحدى الشرفات الممتلئة بالواقفين، يتنسمون الهواء اللطيف، أو يجدون سلواهم في المارة.

قال وهو يضمني إليه فأتخلله ويتخللني: كنت أعرف أنكِ لابد تبكين، وسوف تبكين أكثر لو علمتِ كل أسباب البكاء، أحصيتِها ،تلمَّستها. قطرات كالبللور تشرخ أمامي أُطُر الغمام، كانت تتساقط منكِ حولي، تصلني هناك في البعيد، أخوض فيها ببصري تتقدم أو تتراجع في رقصاتٍ حزينة، أغرق فيها فأرى شمساً لا تطفئها الماء فأطمئنُ عليكِ في غربتي القهرية.

قلت بعد أن تلاشى جسدي وتداخلَت أنسجتي مع خلاياه: كدتُ أن أكفُر بيوم مجيئك. أجلس فوق فراش العجز، أنصب محرقتي، أُطعِمُها أشتاتي، قلقي، غياب لوني، صقيعي الدائم. أحسست بك قادم. ما عدت أتوارى خلف كفني، وسمحتُ لنفسي أن أُطعِم ناري صليب همومي.

قال وأنا بداخله: كُفِّنتِ سنواتٍ بغطاء مثقوب.. حَمَلتِ صليبَكِ وبه أخطاء العالم. التحَفَت أرضكِ بنباتٍ متسلق، يتصاعد من حولك لا يطلب سوى عنقكِ أو أنفكِ ثمناً لعبء صليبك. تواريتِ، ذَبَلَت ورودكِ، ونباتكِ ينمو في صمتٍ ويشتد. حين اعتراك ضَعف العالم احتضنتُكِ بالكهف. جسدك متعب يتحرق شوقاً، خوفاً، قلقاً. لكنِّي عبر نشيجكِ أسمعُ لحناً يطغي، يسمو، يعلو علي ضعفك، يفرد قامتك، تبدو ملامحك منبسطة، تتزن إشاراتك، يكثُر صمتك، تصلني أحلامكِ وأحلامي.. أوهامكِ وأوهامي.

قلت: أريدك. أريد أن أهيم، أعشق أن أهيم فلا يمسّنِي الحنين للناس ولا حتى للأشياء. رأيتني أسوِّي ردائي المصري القديم ، وعندما سقَطَت منه بردية، صنعت شيئاً كالشَفَقِ به كل الألوان التي أحبها.. صدري تتسع استداراته، ينادي خلف طوابق الزينة، تبرز نقطة منتصفه، تصدح قيثارتي ولا أفكر في الرجوع.

قال: جئتكِ، فمُرِي أن تنزل أمطاركِ واغتسلي، فأنا أحب رائحة المطر المغسول، المضمخ برائحة شَعرِكِ.. وأُحِبُّكِ. افتحي مسامك فأتُوهُ بداخلِكِ، نتذوق رائحة القرب، يتعانق طفلي وطفلك ونذوب.

قالت: كدت أن اكفر بيوم مجيئك.

قال: ولقد جئتك .. جئتك .. جئتك.

علا صُراخ فاتن فجأة ترجوني أن أرفع جسدي عنها.

***

عند موعد وجبة الغذاء دخلت السجَّانة تحمل “قروانة” العدس المسلوق وجِراية الخبز الذي يخبزونه في سجن الرجال، والطبيبة التي تصاحبها ركَعَت بجوارنا حتى تتمكن من إجراء فحصها الصوري علينا. قياس الضغط ثم عدّ النبض. بعدَها فتَحَت فَمَّينا وطَلَبَت إخراج لسانينا. خرَجَت المرأتين وتركوا لنا الطعام يفترش برائحته هواء الغرفة.. تتسربل عبر الأنف، فيُثير أحماض المعدة وأنزيماتها ..نزدرد لعابنا ويرتفع معدَّل التدخين وشُرب الماء، إلى أن يأتوا عند المساء يستردوا ما تركوه، يتأكدون من وزنه وعدم مساسنا له.

كيف نقطع الوقت سوى بالحكي طالما فَشَلَت محاولتنا الحصول على كُتُب أو روايات من مكتبة السجن.

بللت فاتن طرف الشال الذي تحبه وأخذت تعمل الكمادات، تتعامل بجدية حتى مع تورم عينيها خاصة أن اليسرى باتت تامة الغلق لاتصال الجفن الأعلى بالأسفل. قالت:

- أحياناً أحسدك لأن لديك أمك وأبوكِ، ونبيل طبعاً، عند خروجكِ. تعرفين أن أمي ماتت بعد ولادتي بأقل من العام كما أخبروني. اختارت الموت مع اختيارها أن ترى طفلتها.. هل رأيتِ مثل هذه القوة والإصرار؟ حذَّرها الطبيب من خطر الحمل على قلبها الضعيف، لكنها كانت تملك القدرة على الاختيار. اختارت أن تراني، تخيَّلي؟ حتى كنت آخر ما شاهدت كما قالت لي خالتي التي أعيش معها بعد أن اختار أبي أن يهرب من الذكرى بالسفر إلى حيث لا يعرف أحد. وكأنهما يريدان أن يعفونني من الذكرى حتى لا أتجرأ واستدعيها وأعيش. كنت ألتقط من خالتي الإشارات التي تخاطب بها زوجها الأخرس وأتفاهم معه ولولا حرمانهما من نعمة الخَلَف لا أدري كيف كانت ستكون حياتي.. دعينا من خالي وخالتي وأخبريني بماذا كنت تحلمين أثناء غفوك؟ كدت تحرمينني من عيني الأخرى!!

كنت مع نبيل أحتضنه.. أول مرة أسمع اسمي يُنطق بهذه العذوبة، وإلى الآن أحس أنه معي أكاد أشك في حواسي. تخيلِّي أني أشم رائحته فوق ملابسي لا أزال؟ أسَمِّيه الفنان ويدعوني الجيوكندة. في الجامعة كنت يوماً أجلس مستندة إلى تجويف جسم شجرة كبيرة علي أثر إحدى الشجارات في حوارات زملائنا (الإخوة الأعداء). أجلس صامتة، يسيل دمعي دون نشيج. لمحني نبيل وكنت أعرف أن داخله ينطق سأماً مثلي وكأنه يقول: لا أمل. ابتلع غصته وقال: لك ابتسامة ساحرة تفوق ابتسامة الموناليزا والآن أرى أمامي بكاءاً صموتاً وساحراً أيضاً، أتعرفين؟ قبل أن أراكِ كنتُ أحسبُ أن هناك تعارض بين المشاعر حين تطلب أو تشتاق وبين القضية الوطنية.

تنهدت فاتن وقالت: أعجبتني كلمات مظفر النواب التي كتبها لك نبيل في خطابه:

يا وطني وكأنك غربة …وكأنك تبحث في قلبي عن وطن أنت ليأويكَ!! نحن اثنان بلا وطنٍ.. يا وطني.

***

على الطريق المؤدية إلى الإسماعيلية، تصطف أشجار المانجو أكثر من الفاكهة الأخرى، أغلبها توصمه آثار الحريق. الأرض مكشوفة لا أثر لبنايات. على البعد تتناثر أطلالاً مهدمة مهجورة. سيارات الشرطة العسكرية وسيارات الإسعاف التابعة للقوات المسلحة تسير فوق الإسفلت بسرعة مجنونة. بعض مركبات الجيش تحتكُّ جنازيرها فوق العجلات ببطء. لمح الجند سامح ورفاقه عند إحدى الدُشَم فاستوقفوهم للتفتيش. أبرزوا ما معهم من تصاريح وطلبوا مقابلة القائد المسئول. بعد قليل أدخَلوا سامح ووقف الباقون مع الهدايا التي حملوها بجوار البوابة. مع الأوراق الممهورة، قدَّم سامح نيته الصادقة في المساعدة هو وزملائه ورغبتهم وقدرتهم على فعل أي شيء يطلبه القائد منهم. ضحك الضابط الشاب وهو يشير لسامح بالجلوس فوق أحد الصناديق الخشبية التي يتخذونها مقاعد:

- يا عزيزي، الحرب تعني جنود وسلاح وإمكانيات وخطط وأوامر.. جيوش وليس بالنوايا الطيبة تنتصر الشعوب. رد سامح بتفهم:

- لكن لا تحرمنا من شرف العون والمشاركة..يا فندم والله ممكن أن نفعل ننفذ أي أمر.. أي شيء تطلبه لك أو لرجالك. ضحك الرجل في هدوء لا يُصدَّق وقال في جدية موجعة:

- يا حبيبي أنا نَفسي لا أفعل شيئاً ولا أدري ماذا أفعل. ماعنديش أوامر بحاجة. ممكن نتحاصر ويخش اليهود يذبحوننا مثل الخرفان. أنت وزملاءك عبئا إضافياً والحكاية مش ناقصة. أنا محتاج حاجة تانية خالص. محتاج قرار بالتوغل.. مدد بالسلاح.. تغطية بالطيران. تقدر؟ أنا كل ما أمتلكه هنا خرائط وجنود منهَكَة ولوري. أنصحك تأخذ اللوري تتفحص حمولته جيداً وبالتوفيق لكن جوابات وزير الثقافة بتاعك خليها معاكم للذكرى. وقول لسيادة الوزير إن الضابط عاطف عيَّاش قدَّم لنا كل ما يملك.. يمكن يبعث لي نيشان.

صرخ الضابط فجأة وهو ينظر في اتجاه الفتحة الأمامية للدشمة: يا عسكري؟

جاء الجندي متعجلاً وسط لوعة سامح الذي تأكد من صدق كل كلمة نطق بها الضابط المكلوم. قال الضابط وهو يشير لسامح: ورِّيه اللوري وخليهم يمشوا من قدامي بسرعة قبل ما أضربهم بالرصاص.

وزَّع الشباب الخبز والفطائر البيتية والسجائر والمعلبات وأكياس الحلوى علي الجند وساروا وراء الشاويش الذي قال: عاوز تشوف اللوري فيه إيه؟ تعالوا معايا. قفز نبيل -الذي كان لا يزال بالثانوي- إلى بطن اللوري يساعد الجندي في كشف الغطاء الذي يستر عبوة هائلة من “ليمون الأضاليا” كبير الحجم. قال الجندي متهكماً: قنابل ..خذ لك كام واحدة يمكن ينفعوكم زي ما نفعونا هنا.

ورجع الجندي دون أن ينظر خلفه. تعالى صوت شريف يقطع الصمت المدهوش: آه يا ليموني يا ليموني يا ليموني!!.. ثم سكت مرة واحدة بعدها قضم بغيظ له صوت قضمات متتالية من الليمونة الكبيرة: يا رب كده حرام .. أمال في الآخرة حتعمل فينا إيه؟

الشمس كانت في طريقها إلى مغادرة السماء. ابتَعَدوا عن الدشمة يبحثون عن بداية الطريق قبل انسحاب الشمس النهائي. أحدهم يصفر والباقية تسير في صمت. لمحوا أحد الرعاة يسير وسط نعجاته وخرافه وكلب يسير أمامهم. نصحهم البدوي بعدم الخوض ليلاً في مثل هذه الأيام. رمى بعصاه أمامه وافترش معهم الأرض. سيظل معهم وحيواناته حتى الصباح. صورة ثروت عكاشة بملامحه الطيبة السمراء تترائى أمام سامح حينما كان يصغي لاجتهادات الشباب داخل الفيلا التابعة لوزارة الثقافة. تمر أمامه الصورة، تُهدئ خاطره، تزيح عن رأسه التشويش حيناً وتزيد من العتمة حوله حيناً آخر خصوصاً وقت اسودت السماء آذنةً بليلٍ بلا قمر ولا نجوم.

أشعل الرجل بعض الحطب وبدأ في عمل الشاي، ونام الكلب مطمئناً على الناحية الأخرى . اقتنع البدوي بالتنازل عن أحد الخراف أو النعاج للوحدة العسكرية وتعهَّد أن يحضر لهم طعاماً وسجائر إذا ما استطاع التصرف في شحنة اللوري و المقايضة عليها إذا ما وافق الضابط. سأل البدوي: ايش يعملوا بالليمون ومن وين جابوه؟ لكن أحداً لم يرُدُّ.

توسَّد نبيل حجر سامح مازحاً: إعمل حاجة مفيدة.

ينظر شريف في رقدته على الأرض ناحية الأشجار البعيدة قال: كلما رأيت شجراً تذكرتُ أول قبلة في حياتي. ينصت الجميع في شرودٍ مضطر ويكمل شريف:

- كنت في سنة رابعة ابتدائي وهي بنت عمي.. الفرع الغني في العيلة. كانوا يأتون لزيارتنا مرة أو مرتين في السنة يحملون معهم الزاد والزواد من خيرات مزرعتهم وكنا نرتدي أمامهم أحسن ملابسنا. كانت لهم شقة هائلة في المهندسين يقضون فيها اغلب الإجازة الصيفية. كنا نزورهم فيها تسبقنا أحلام البقاء أطول مدة ممكنة عندهم. أخرج مع منى لحمايتها وتشتري لي الجيلاتي. الطريق إلى البيت عبارة عن ممشى تحوِّطه الأشجار، والخضرة تملأ المكان. كنت مملوءٌ برغبة حقيقية في أن أقبِّلُها. أوقفتها وقفت. اقتربت منها فرمت بنظرها إلى الأرض. أسندتها إلى جزع الشجرة. كنا مساءاً والشارع كان أماناً. أعمدة الإنارة تُلقي بضوئها سلاماً علينا. قبَّلتُها مدفوعاً برغبتي الطفلة. ترَكَتنِي أُقبِّلُها.

يضحك الشباب ويكمل شريف:

- قلت لها “لأ دي مش محسوبة” وقبلتها مرة أخرى. وقتها أحسست بشيئاً طرياً يبلل سروالي .. راح فكري إلى أنه بول.. لم أكن أعرف أن هناك سبباً آخر لبلل الملابس الداخلية للرجال سوى البول.

وسط استغرابهم حكى نبيل عن جلسته المعتادة في أول المقاعد أمام مكتب الأبلة حين كان بالصف الأول الابتدائي، يشغله سؤالاً ليله ونهاره دون أن يعرف لذلك سبباً: ما لون سروال الأبلة الداخلي؟ تسلط عليه السؤال واستحوذ علي تفكيره حتى يوم انشغلت فيه الأبلة بقراءة وإعادة قراءة “شرشر” الذي كان ينط عند البط وعمر الطالع السلم والجميع يردد ورائها. ألقى بقلمه الرصاص على الأرض أسفل مقعده. هبط لأسفل يحضره لكن قلبه كاد أن يتوقف خشية أن تنكشف حيلته. غاص بعينيه في فخذيها البيضاويين.. تراجعت المرأة للوراء تضغط بجسدها على الأرجل الأمامية لمقعدها تَرَى الذي وقع من تلميذها.. لكن رجوعها ساعده في إنجاز كشفه الطفلي الكبير: لونه لبني وحجمه صغير. عندما وصل إلى بيته عبث بملابس أمه لكنه اكتشف فارقا مهولاً في الحجم.

كان سامح شارداً ينظر لتلاعب ألسنة النيران علي ملامح الأعرابي وفجأة سأل الرجل: هل المصريين أصولهم عربية؟

عند انتصاف النهار استطاع الجمع الصغير الوصول إلى مشارف مدينة السويس. نزلوا من السيارة النصف نقل التي تُحمِّل تنكات مياه وجراكن، وذهبت إلى وجهتها. آثار الهدم والحرائق ينطق بالجريمة علي مدد الشوف. ترائى لسامح هيكلاً شبحياً لِطِفلٍ له ملامح أحمد سعيد مذيع صوت العرب. يمسك بقضيبه الصغير يبول فوق أحد التجاويف التي صنعتها المعدات الثقيلة والطائرات الإسرائيلية والأمريكية ثم يجلس يعبث بالأوراق والأسمال نصف المحترقة دون أن يغطي مؤخرته. ينبش في التراب بقدميه ثم يلعب في التراب الذي رشه بمائه.

كما فعل سامح عند الدشمة في الإسماعيلية، ترك رفاقه عند البوابة وطلب مقابلة قائد الموقع. كان الضابط بالداخل يحاول إصلاح جهاز الإشارة دون جدوى. محاولة مستميتة من بعض الجند، يبدِّلُون الأسلاك الخرساء علَّها تنطق فيخرجون من عزلتهم. دخل سامح ووقف يرقب الرجل، يشعر بالعجز. تمنَّى لو كان يعرف كيف يصلح الجهاز أو يملك ثمناً لآخر جديداً!!.

“نعم؟”- قالها الضابط في عصبية. ولَمَّا أخبره خالي بنيَّتِه وراء الحضور إلى هذا المكان، رد الضابط: لا يوجد عندي سوى هؤلاء الأفراد الخمسة، الباقين مدفونين خلف الوحدة ولدينا قاربين، إذا أردتم المشاركة، ممكن.. بصفتكم مدنيين ومعكم هذه التصاريح أن تنقلوا بعض المدنيين والجنود هناك عبر القناة.

ثم نادى: يا شاويش سعد؟ فك لهم القوارب وشوف لي شيكارتون من أي داهية بسرعة.

ليس لدى الضابط أية نية في الحديث. أعطى ظهره لسامح وأشعل ثقاباً وسيجارة. خارج المكان سأل سامح الشاويش:

- لِكَم يتسع القارب الواحد يا شاويش؟

- أربعة أفراد يا أستاذ.

- والمسافة من هنا لهناك؟

- بالقوارب دي مش أقل من ساعة والدنيا زي ما أنت شايف، حَرّ ومافيش هوا يساعد.

- ربنا موجود يساعدنا كلنا يا شاويش. خللي بالك من نفسك يا وَحش..

سلمه الكيك وكرتونة السجائر:

- سؤال أخير.. تفتكر الصهاينة يسمحوا لنا ناخد مدنيين ببساطة كدة؟ أقصد، عادي يعني؟

- يا أفندي، حضرة الظابط بيقول إن الصهاينة موروطين لشوشتهم. قتلوا منهم ياما وأسروا الباقي والأهالي عليهم بخسارة.

أصر نبيل أن يصحب سامح لأنه يجيد السباحة وممكن أن ينقذ خالي. اتجها الاثنين ناحية القناة واحتمى الباقون خلف بعض الصخور وجزء من هيكل مصفَّحَة بالية. الجثث الطافية للجنود والمدنيين تغطي وجه القناة. أطنان من البقايا والنفايات والدلاء الفارغة تطفو أيضاً. يقشعر بدن نبيل لرؤية أعين الجثث مفتوحة في مواجهة السماء المكشوفة. تلتصق إحدى الجثث ناقصة الأطراف بالقارب. عين الجندي الشهيد تبتلع نبيل وقاربه لشدة اتساعها. تمكَّنا من إزاحة الكتل العائمة وسأل خالي: حافظ قرآن؟ رد نبيل: ولا انجيل.

عن بُعد، بعض المتسللين الهاربين يرمون بأجسادهم في المياه يطفئون لهيب حرارتها ولهيب الهلع الذي جعلهم لا يعبئون حتى لو قُتِلوا غيلةً من رجال الضفة الأخرى. المهم أن يتذوقوا طعم الماء وأن يتغير طعم الإحساس بالجفاف والظمأ. قطع الصديقان أغلب المسافة بالقاربين، وعلى بعد عدة أمتار لمحوا الضابط الإسرائيلي واقفاً ناحية الشط، مُعلِّقا نظاراته المكبرة حول عنقه مع السلسلة التي تحوي رقماً وحروفاً عبرية تلمع لسقوط الشمس فوقها. اقتربا وقَيَّدَا القاربين وسط الضحكات المتعالية من الجند من الجنسين ذوي الشعور الشقراء والسوداء المنسدلة. بعض الجنود يشهرون السلاح ناحية خالي ونبيل بينما يتم تفتيشهما تفتيشاً ذاتياً. يتكهن سامح بأنهم ربما هم وحدة عسكرية أيضاً مزروعة حديثاً تركها القادة ومعهم عبء هذه الأرواح. حيَّا الرجل بيده ورأسه فأشار له بالاقتراب. صنع بقية الجند حولهما ممراً بشرياً. الضابط يلِّف حولهما، مَلَّس على شعر سامح وقال له: أهلاً يا كلبوظ، اتفضل في الصالون. علا الضحك وسأله الضابط:

- حضرتك مشرفنا ليه يا ترى؟رد خالي متلعثماً:

- أنا راجل على باب الله. قلت أعدِّي الناس اللي عندكم وأهو يعني أخَلَّصكم منهم.. من المسئولية يعني.

وسكت ينصت بكل مشاعره لرد فعل الضابط الذي ضرب سلاماً عسكرياً بضم قدميه بقوة ويباغت الشابين المتحمسين بالموافقة:

- بشرط واحد.

سامح يحدث نفسه في حيرة: كيف يتحدثون لغتنا العامية وكأنهم يعيشون بيننا؟

قال الضابط:

- خد يا كلبوظ الناس بتوعك بس هات لنا مياه الأول. أنتم ناس كُرَمَا وإحنا لغاية دلوقت ضيوف والعساكر عطشانة. هات مياه تاخد ناس.

- يا حضرة الضابط انت تعلم تماما أن المياه والنور والناس وحتى الشجار ضربتوها !! رد الضابط : خلاص يا كلبوظ هات ستيللا مثلجة أو بيبسي. بعدد الزجاجات أعطيك أنفاراً. جذب سامح نبيل من كتفه وهو يهز رأسه موافقاً. قلب نبيل يكاد يخرج عبر صدر قميصه وهو يسأل: ممكن يضربونا من الضهر؟

سحبا القاربين وأخذ سامح يُمشِّط بعينيه الاتجاهات الثمانية لا يعرف المنطقة جيداً. المرة الأولي التي يأتي أحدهما للقناة. الحل الوحيد الممكن هو الذهاب إلى جوف المدينة، أو التي كانت مدينة، يبحثا هناك عن مياه صالحة للشرب أو صناديق بيبسى في المقاهي التي هجرها من لم يموتون من الأهالي. من الخلف كان الضابط يخلع قميصه ويقف عارياً، قال نبيل: نشِّف دمي ابن الكلب. رد سامح منهمكاً في التجديف: أقول له مفيش مياه يقول لي هات استللا ابن الجزمة.

بعد ساعات من البحث والنبش وسط الخراب، وجدوا صندوقين من المياه الغازية. الحَرّ الشديد يُسيلُ اللعاب على رؤية الزجاجات، لكن لو صدق الضابط يكونوا قد فرَّطوا في أحد الأهالي لو اقتسموا زجاجة. قال نبيل:

- سوف أمتلك طائرة ولو هليوكوبتر في يوم من الأيام .

المجاديف الأربعة تضرب وجه القناة. الأمل حتى لو كان سرابياً واهماً يحدوهما، يدفع القاربين المطاطيين بسرعة الرياح الصحوة. رغبة يخلقها الحس بالإنجاز والقدرة علي الفعل بدلا من الشعور بالعجز الذي يدفع لكره الذات والدنيا كلها. اقتربا حيث الجنود وضابطهم. أسرع أحد الجنود بالنزول إلى بطن القارب ومعه آخر وحملا الصندوقين. وضعوهما أمام الضابط الذي استقبلهم بسخرية: برافو عليك يا كلبوظ. وعشان تعرف إننا رجالة وكلمتنا واحدة، خذ الناس بتوعك بس بعدد الزجاجات.. الواحد بقزازة… يا بلاش.

وسط صخب الجند واستفهام بعضهم عمَّا قاله ضابطهم بالعربية، أشار العقيد إلى نبيل:

- تعرف تعدّ على أصابعك يا كتكوت؟ ثم رفع زجاجته إلى فمه:

- أوه! سخنة قوي لا لا لا ما تنفعش هاتوا ثلج أسلمكم الناس بتوعكم.. Go!

كاد سامح أن يسأله من أين أحصل علي ثلج يا أولاد الكلب بعد أن جعلتموها خرابة؟ وفي هذا القيظ؟ ولمح نبيل يطحن أسنانه، وجه كلامه للضابط: ماشي حاجيب ثلج. يلَّلا يا نبيل ونزلا إلى القارب وتركا الصندوقين يقتلهما الظمأ والإجهاد والخوف والحس بالمهانة والغدر. بينما الجند يصيحون “ باي باي يا بلبل… باي باي يا بلبل”

كادت الشمس على المغيب. الولدان يضربان بطن القناة في عنف تصرخ علي إثره المجاديف. تكاد أن تتفتت تحت قبضاتهم، يتحد تأوه الماء مع تأوههما عقب ضربات الأذرع.

عند الشط الآخر بحثا في أحد المحلات المهجورة. كانت الثلاجة الخشبية تعمل!! شربا من أحد الصنابير التي ميَّزوا وجودها من صوت سرسوب الماء وبحثا عن شيء يلفان به القالب النوشادري حتى لا ينصهر من الحرارة أو الحركة.

قابلهم الجند والضابط بالصفير، ولمَّا وضعا القالب أمامهم كالقتيل، قال الضابط:

- انتو عيال جدعان والمصري علي فكرة إحنا عارفينه كويس، يقدر يعمل أي حاجة. شاطر يا كلبوظ وإنت يا بلبل عدّ علي صوابعك.. الصندوق فيه كام قزازة؟ تركه وتجرع مع جنوده المشروب ساخناً بينما آخرون يكسِّرون الثلج ويعبئونه في أوانٍ لامعة. اقترب من نبيل:

- علِّموكم في المدارس إن مصر كان لها صولات وغزوات من أيام الولاية العثمانية واستولوا علي أجزاء من أوروبا وإن شعبك محارب وله بطولات عظيمة، مش كدة؟

الولد لا يرد. يحاول أن يلتحف بالبرود، يرسمه فوق ملامحه، يستريب مما قد يحدث له وللآخرين. يتمنى فقط أن تنتهي هذه اللحظة العبثية.كل الوجوه تصب نظراتها علي الفتى وهم يتهامسون مع احتسائهم المياه الغازية:

- حد قال لك يوم أن كل بطولاتكم كدب؟ وإن طول عمركم شعب نائم ومصحيش غير لما جاء أونكل بونابرت ودخل الأزهر بخيوله؟

رد نبيل في دبلوماسية حسده عليها سامح:

- والله كل الشعوب في الحروب ممكن تُهزم مرة أو تنهزم. سيجال يعني.

- لا يا حبيبي.. ده في ماتشات الكورة الشراب اللي بتلعبها في الحارة. لمَّا يفتحوا المدارس إن شاء الله خللي الأبلة تعلِّمكم التاريخ صح عشان تليقوا بالجيرة. إحنا لغاية دلوقت جيران لكن مين عارف يمكن بكرة نختار لكم المناهج المدرسية. يعني خدمة إنسانية. ماشي يا قمُّور، إوعى تنسى. ودلوقت اتفضل انت وهو وخذ 24 نفر معاكم.

ثم نظر إلى القاربين بتفحص كاذب واهتمام مصطنع: حلوين قوي القوارب، مين اللي عملهم ماما؟

يتزايد الصخب الضاحك المستهتر من الجند كما يتزايد حنق سامح والحس بالقهر يملأ نبيل. اللعب بالأعصاب لا يريد أن ينتهي. الضحك من طرف واحد يستمر. اقتربت جندية شقراء يبين سوتيانها الأسود اللامع خلف القميص الكاكي المفتوح. اقتَرَبَت من أُذُن الضابط، هَمَسَت له. هز الرجل رأسه موافقاً، فكافأته بقبلة في فمه، وعادت إلى مكانها. اهتز الضابط من الضحك المكتوم وهو ينظر لها بريبة، ينطق كلماتٍ عبرية ويرد عليه الجميع بالعبرية أيضاً وهم يهزُّون رؤوسهم بإلحاح. قال العقيد:

- يا شباب .. الجنود بتوعي عندهم إحساس بالذنب لأن الحرب كانت من طرف واحد.. يعني مش Fair وكابتن لولا تقترح فكرة المنازلة مثل مبارزة عصر الفرسان، يعني رجل لرجل.

وأخذ يضرب الهواء بسيفٍ وهمي “طاخ.. طاخ” فتصوَّر نبيل أنه ينازله هو الآخر نزالاً وهمياً. لكن السيف التمع في يده وأطار رقبة الضابط وجرت الرأس لتجلس علي حجر كابتن لولا. أشار الضابط ناحية أحدهم ونادى عليه. كان أقلَّهم حجماً.. ثم صفَّق ثلاثة مرات ورسم الجدِّية على ملامحه التي صبغتها الشمس. وقف دافيد ينفض ملابسه من الرمل. شيء داخل سامح يؤكد له أن الدماء ستطول ركبتيه لا محالة، وأخذ يلوم نفسه علي اصطحاب نبيل معه. سمع الضابط يقول:

- من سينازل دافيد المسكين؟

أحس خالي بلوعة أمه وأم نبيل وفكر أنه لولا وجود نبيل لكان قد حرر صدره من كل الغيظ وأعصابه من كل الحقد المكبوت في هذا اليوم الدهريّ. فجأة سمعوا صوتاً يأتي من خلف التبَّة التي شيدوها بالأحجار. مصري صعيدي ضخم الجثة يرتع في أسمالٍ بالية.. بقايا الدم الجاف يَبِين أسفل أُذُنه وعند ذقنه. اتسعت عين خالي وهو يتصفح الملامح الصعيدية. الجنود يضحكون لا يهتمون بحرارة الجو ولا الصهد اللافح الذي يتصاعد من الرمال الملتهبة. اقترب الضابط من الصعيدي:

- تعالى يا رجب، ورِّيني حتعمل في دافيد إيه. تخيَّل أنه إيدن وارميه في البحر، اتصرف معاه.

قال سامح في نفسه: رجب أول القتلى اليوم في هذه الكوميديا السوداء.

عضلات رجب العطشى تتزود من مخزون الكبت التاريخي. ما الذي يدور في رأسه الآن؟ هل فكرة الثأر لقتل أولاد بلده؟ أم أمل الركوب إلى الشط الثاني وشربة الماء التي سوف تبلل حلقه الجاف؟ علُّه يَأَسَ من الرجوع إلى أهله سالماً فاختار أن يفعل شيئاً قبل أن يضعوا حداً لحياته. اقترب سامح من رجب وابتعد عنه في حيرة. كيف يحذِّره ألا يلمس دافيد وهو يريد من كل قلبه أن يطرحه أرضاً ولو لمجرد الإهانة قبل أن يلقون ربهم جميعاً. دب رجب الأرض بقدميه، تتسع عيونه وتقترب رأسه من صدره في شجاعة المنتحر. دافيد يُمثِّل الرعب ويرتجف بميوعة، يقترب منه رجب دون أن يفكر في أي شيء. لا ينظر إلا لهذا الذي يتلوى أمامه خوفاً مخنثاً مكذوباً ..الكفُّ الصعيدية الضخمة تريد أن تلمس دافيد الذي ألقى بجسده الضئيل على الأرض متوجعاً في البداية في حركةٍ تمثيلية، ثم ناشراً ذراعاه بجواره وكأنه قتيل. عرق التوتر ينافس عرق يونيه ويبلل ملابس سامح التحتية. خبط الضابط كفيه:

- “برافو… تقدروا تمشوا”

وسط ضحك المجموعة وتهالك دافيد الذي انحنت عليه لولا تغرقه بالقبلات، لم يصدق الثلاثة أنفسهم، ينظرون لبعضهم وللضابط.. يسائل سامح نفسه:هل سنسير بالقاربين الآن آمنين؟ سنأخذ ناسنا ونمشي فعلاً؟ لا يهم عدم تكافؤ العدد مع سعة القاربين.

أغلب من تقدموا حسب النداء عليهم كانوا جرحى. أرقد نبيل أصعب الإصابات الصامتة في جوف القاربين وأمسك الباقون بالأطراف بعد أن تخلصوا من الأحذية، يحوِّطون القوارب المطاطية، كلٌ يحاول أن تتماسك قبضتيه جيداً على جزء من الحبال التي تلتف حول المطاط المنبعج، لا يكفون عن التلفُّت للوراء حتى وصلوا إلى الضفة الأخرى حيث كان بقية الرفاق ينتظرون متسترين بالظلام. ألقوا بأجسادهم في الماء يُخرِجون الجرحى يلمحون نظراتهم التي لطفلٍ تائه وجد أحضان أمه. إحساس الفقد والتوهة.. بعضهم كان يبكي، ثم أخذ الجميع يغني بصوتٍ متهدج منخفض في البداية: بلادي.. بلادي، بلادي لك حبي وفؤادي. يجلس سامح يريح أنفاسه يشرد لدقائق في السرادق الذي نصَّبوه يوماً في الميدان الكبير.. يتذكر أم عوض بائعة الشاي في الناحية الأخرى من السرادق، تبكي فرحاً بابنها المجنَّد عوض، ترقص على نغمات أحمد سعيد وهو يُجهِز بحلقه المتحمس على بقية العتاد الإسرائيلي عبر مكبر الصوت. تبكي فرحاً “يا عيني يا ابني.. كل دي طيارات وقعتوها! ترجع لي بألف سلامة يا ضنايا”.

***

في اليوم الثاني للإضراب عن الطعام، جاءتنا زينب وسامية تحملان عهدتهما وحاجياتهما الخاصة. بعد غلق الباب أخرجت سامية من جيوبها قطع الشطرنج التي صنعتها من لباب الخبز الأسود النيئ. سألتها فاتن: أكلتم إيه إمبارح يا خونة؟ في حين ردَّت سامية سؤالها بسؤال: أخبار الجوع معاكم إيه؟ ردَّت فاتن: أول مرة أحس أن العدس المسلوق و”السوس المفوِّل” لهم رائحة مختلفة. قلتُ: “لكننا سنتحمل الجوع مهما طالت المدة”.

البنات يحكين عمَّا حصل أمس بعد انعزالنا في التأديب. خرج المأمور في جولة للمرور على السجن ومعه المشرفات وبعض السجَّانات وذلك علي إثر وشاية من إحدى النزيلات. بجوار السور جلَسَت واحدة من الممسوكات بتهمة الدعارة تنزوي بادياً عليها الانهماك وهي تنظر إلى فخذيها. اقترب الجمع منها مستغرباً ووقفوا ساكنين ظناً منهم أن المفاجأة سوف تجعلها تجري وتعتذر باكية. نادتها السجَّانة: “بتعملي إيه يا بت؟” ردَّت هي: “يوووه، ما انتي شايفة يا وليَّة. عندي جلسة بكرة وباعمل حلاوة. حرام يعني؟” المأمور يخفي ابتسامته وهي لا تزال تنزع الشعر الزائد من الساقين وما تحت الساقين ولما جرَّتها السجانات إلى الحبس الانفرادي، أمسَكَت علي جملة واحدة أخذت ترددها: “يا عالم هو أنا كفرت؟”

هذا عمَّا تم في الحوش، أمَّا عن عنبر السوابق فقد حدثت مشادة بين إحداهن والشاويش الذي يُحضر عبدون والخبز كل صباح. هَجَمَت عليه المرأة تخنقه من ياقته الميري ثم أطارت له أزرار البذلة الرسمية الصفراء، فناولها كفَّاً ثقيلاً علي وجهها وغاصت أصابعه في خدَّها الأيمن. شاع الخبر في ثوانٍ، فتوجَّه العنبر كله وطرحوا الرجل أرضاً وظل ملتحفا بالسباب والأَكُفّ والشباشب والركل إلى أن استيقظ المأمور وأمر بسحب الأغطية والحشايا وناموا ليلتهن علي الأرض الإسمنتية. بعد ذلك طَلَبَت فاتن أن تستمعا إلى أشعار “بسمة العفوية”وأخذت تقرأ:

أصواتٌ مجهولة تأتيني عبر القضبان

تكشف عن نومي المفجوع العابر

تفصح عن إعيائي

من همسة صوتي المتعب حين أنادي

تنزع من أوتار القلب الصامت أنشودة

تدعوني خلف النافذة المكسورة

أتطلع في الأفق، تطالعني القضبان

أتطلع أكثر فأراه شعاعاً ذهبياً

وأراه قوساً وحصاناً

أتطلع أبعد يأتيني الصوت

ويريني دائرة مرشوشة بالموت

وضفافاً تكسوها الحناء

وحشود مائجة قادمة في موكب عُرس

يرقبها من يحمل شعلة

من يتقدم صخب هائل يرقبها .. ترقبه

وتحدد معه توقيتا للثورة.

كانت فاتن تقرأ وأنا أحاول استعادة أحداث أمس الأول كي أحكيها في خطابي القادم لنبيل، وبدأت أتصور الجميع يصطففن أمامي، يقتربن، يتسلمن من حجرة الرئاسة الأجنحة ثم يجربن الطيران. نضحك لمحاولات الوقوع ومحاولات الصعود، تتساقط من أفواهنا بعض حبات المطر، تحارُ فينا السجانات، تنظر إلينا بدهشة ونحن نلملم أطراف الكلمات والأشعار الأوكورديونية، ننشدها وكأنها أربطة الباراشوتات و نطير نحوم في الفضاء علي أصداء موسيقى المارسيليزيه التي تُعزف عن بعد، شعورنا علي هيئة شموس لها أشكال هندسية تشرق كل على حسب ما أرادت، نتخفف من ملابسنا ونبدأ في الصعود نحو السماوات العُلا في دوائرٍ حلزونية لا متناهية، الأرض تحتنا تتباعد، تنزاح الأسلاك الشائكة تنبسط علي الأرض والبنايات والمدن والأوامر وندور نجوماً في الفضاء. تضبط آمال إيقاع تهويماتنا من ناحية وسوزان من الناحية الأُخرى. أنا وفاتن نحتضن الكلمات، نحتمي بها كأطفالٍ تحمل الدمى. كلمات نبيل معي تدفئني وتثري زادي ممزوجةً برائحة الوطن. لماذا يصبح البدن عبئاً ثقيلاً يفرض نفسه بأشواقه وآلامه؟ متى نلبي نداء الجسد؛ نرويه ونصالحه ونعتني بهندامنا ونجرب أن نعيش؟

أفتقدُكَ كثيراً يا فتى، ليتك لا تعرف الكذب أبداً. يقتلني الذنب الآن لأني لم أكتب لأمي. تُرى ماذا تفعلين الآن؟ أمس تذكرتها عند الفجر، والشيء بالشيء يذكر.. كنت أجلس بجوارها علي المقعد الخلفي لسيارة الأجرة، ينادي أبي علي جدتي تُلقي له بقميصٍ نظيفٍ بعد أن تلطخت ملابسه من النزيف الذي أصاب أمي حين حملها عنوة ليجبرها على الذهاب إلى المستوصف القريب. أُربِّت علي كتف أمي وأبكي دون صوت. بعد قليل باتت سيارة الأجرة محشورة، أرتال من السيارات تحاول تغيير اتجاهها. وقفت السيارة عاجزة وسط موكب مزعوم. تتسمر كل العجلات فوق الأرض. سيارات من كل الأنواع واقفة تسد كل الاتجاهات. دوائر الإجهاد حول عين أمي الزائغة تتزايد، ترتسم درجات الأزرق الفاتح ثم تاهت نظراتها ونامت برأسها علي كتفي مغشياً عليها. خرج أبي من السيارة صارخاً متسائلاً عن كل هذه الفوضى. الدم يسيل من أمي يبلل حذائي الجديد. الناس تملأ البقية الباقية من الأرضية الأسفلتية والأرصفة ومداخل البيوت. رائحة الدماء تملأ أنفي مختلطة برائحة الجلد الذي يبطن السيارة، أبكي، أُخبِّط بيدي علي الزجاج الأمامي وأبي يتحدث مع السائق ولا يسمعني. أقفز وأعود إلى أمي علي الكنبة الخلفية، أعدل رأسها وأبكي والهواء ما عاد يجد طريقه إلى السيارة لنتنفسه. أصبَحَت الناس تهتف، أذرع وأيادٍ مرفوعة تكرر نفس الكلمات: عُد يا جمال.. عُد يا جمال”. رجع أبي إلى السيارة ومعه السائق يرفعون أمي التي باتت كالذبيحة وأنا خلفهم أجري وأخشى أن تتوه قدمي وعيوني تتابع الناس. هل يوم القيامة جاء يباغتنا؟ ألا ينتظر الله حتى تطيب أُمي وتقف علي قدميها؟ مِن العدد المهول من الناس أمامي، راهنتُ نفسي على استحالة أن يوجد أحداً داخل المباني. لا أدري من أين تأتينا الأصوات عبر مكبرات الصوت: “عُد يا جمال” أين ذهَبَت القطط والكلاب؟ لم ألمح واحدة حتى دلفنا إلى المستوصف، القطة ترقد علي جنبها ترضع صغارها. أبي يمسك يدي يضغط كفي في عصبية ويجرَّني وأنا بائسة، فلم يسعفني قاموس عقلي بتفسير ما أسمعه من الناس الباكية “الرجل تنحى” أي رجل؟ وما معني التنحي؟……

انشغلت فاتن تسمع من سامية بقية ما حدث بالأمس، بينما فَرَدتُ إحدى الخطابات التي طبَّقها “عبدون” في حجم علبة الكبريت، وانزويتُ أقرأ:

بسمتي ..الجيوكندة..

ما رأيك في شعر مظفر النواب؟ إن هذا الرجل المنفي يعبِّر عني وعنك: “وطني أنقذني من مدنٍ سَرَقَت فرحي”. إن الغربة تنهشني يا أعز الناس وأنت بعيدة عني. صدقيني ..المرة الأولى التي أحس فيها بمعنى الغربة والنفي والإجبار. عندما كنت مع سامح في أعقاب النكسة كنت لازلت بالثانوي، وطبيعة السن والأحداث الجسام كانت تشوش أغلب استقبالات ذهني؛ أرى أكثر مماأفهم ولا أمتلك القرار، فقط القدرة علي الفعل رغم الحس بالمهانة والمرارة التي كانت تلفّني ومحاولات الفعل الفاشلة غير الواعية. وأحياناً السباب كان طريقاً لتخفيف وطأة المشاعر. كل هذا ترك بصمته عميقة بداخلنا نعم يا حبيبتي بدليل ما حدث لأخي هشام الذي ترك للأيام مقود مقاديره سأماً وشعوراً بالعبث. الأدوية لم تأت معه بأي نتيجة. وسامح أيضاً يا بسمة حين فشل في أرضاء ذاته ترك أرض بلادنا وذهب إلى بلادٍ أُخرى بعيدة يبحث في مناكبها. قرر أن يتجاوز كل مؤرِّقاته، همومه، وهموم البلد، والأرض والحلول السلمية ومشاكل الجوع وتفاوت الطبقات الصارخ والأسعار المجنونة. قرر أن يوظِّف غضبه عبر ذكاءه لكن في سكةٍ أُخرى. سكة جمع المال. وأنا في غنى عن تأكيد ذلك فهو خالك وتعرفينه جيداً. كما أني في غنى عن تأكيدي حبي لهذا الولد الجميل وارتباطي به. أحسُّه أبي أحياناً ومعلمي وأراه أحياناً كثيرة طفلاً جميلاً. قلت له مرة أنه لو كان فتاة لتزوجته دون تردد.

عزيزتي.. إنني أعطي لنفسي الحق في محاولة تحليل ما يدور حولنا. لكن حبي وارتباطي بك هو الغذاء لهذه الروح التي ينهشها العذاب.

حبيبتي الجميلة

ما عدت أحب الليل كالسابق، فالحزن في الليل ثقيل. أودِّعك الآن بكلمات استعرتها من ناظم حكمت الذي علَّمني كيف أحبُّكِ كل هذا الحب:

ما أجمل أن أشرد وأفكر فيك

من أجلك سوف أقوم بنحت تماثيل صغيرة

وسأنسج لك ثوب حرير

وسأنهض فجأة وأروح إلى النافذة

ألصق وجهي بالقضبان

وأردد تحت سماء الحرية

ما صنعته لك من شعر

ما أروع أن أشرد وأفكر فيكِ

أُقبِّل هذه الورقات العزيزات التي سوف تلمسها يديك التي أحسست دفئها وبرودتها في الاعتصام. اكتبي لي.

نبيل ابريل 1973

كما بدأ الإضراب عن الطعام تصاعدياً، بدأت حالات الهبوط والإغماء تتكرر. خوف من لم يأت دورها في الإضراب من البنات يدفعهن للصراخ وطلب النيابة العامة. في اليوم السادس عشر فقدت سامية الوعي، بينما كانت التشنجات تعبث في عضلات وجه علوية في البداية ثم كافة عضلات جسدها. استعان المأمور بطبيب سجن الرجال مع الطبيبة وبعض الحارسات. وجدناهم يأتون جميعا يدفعوا أمامهم أعمدة حديدية تسير فوق عجلات، معلق في هاماتها أكياس المحاليل السُكرِّية والملحية. عرض المأمور أن يدعونا جميعا لوجبة “كباب” جماعية مجاناً، في محاولة أخيرة لثنينا عن الإضراب الذي يُضِّرُ بصورته لدى المسئولين، ولمَّا يأس منَّا ترَكَنا نفكر في عرضه الودود واتجه إلى مكتبه. مرَّت إحدى الساعات الطوال، بعدها أخبرتنا الأخصائية بحضور النيابة وجميع أهلنا؛ سمحوا لهم بزيارة جماعية. هكذا كلهم دفعة واحدة! ارتصَّت الأبدان الهزيلة والوجوه الشاحبة فوق أسرِّة العنبر الكبير الذي نراه لأول مرة وافترشوا الملاءات النظيفة البيضاء وأكياس الوسائد النظيفة التي ظنَّت فاتن أنها سُلفة من “مدام المأمور”! خيَّرونا الأهالي أولا أم النيابة، فاخترنا النيابة حتى لا يكون فخاً منصوباً لفك الإضراب. رجالات النيابة شباب أعمارهم تقارب أعمارنا، يتحدثون بودٍ وتعاطف غير ظاهر، متعجبين من ردودنا أو مستَفَزِّين أحياناً. يرصدون الأسماء والبيانات الصورية. ولمَّا انتهت التحقيقات الصورية السريعة،كانت روحي قبل عيني تبحث عن أُمي بين الزائرين الذين كانوا يتزاحمون ويجري أغلبهم غير مصدقين أنهم سَيَرُون أولادهم. رأيتها. نطق اشتياقي إليها. لم أستطع أن أدلّها إلى مكاني. أرقد أتصفحها عن بُعد وقت دخلت العنبر الفسيح..

يا الله..

لمحتني سريعاً وهَرَعَت إليّ. وقَفَت أمامي، تصفحت ملامحي واحتضنتني وأنا نصف جالسة. رمت بي برفق إلى داخل صدرها وكأن موعد نومي بات محتوماً. وددتُ لو أنم لآخر مرات حياتي ولا يجبرني شيئاً على ترك أحضانها.

تتصارع روائح “السيمون فيوميه” مع زعيق شواء الأسياخ والصواني الشهية، والعصائر تقرقر في الأكواب. الخضروات الطازجة وفاكهة الموسم تصنع لنا ليلة حاتمية..حقائب الغيارات والملابس الجديدة والنقود يدسونها تحت ملابسنا. فجأة هتفت ليلى: يا بنات اشربوا عصائر فقط لا تأكلوا اليوم. المعدة واقفة. عصير أو لبن فقط من فضلكم. حين انتهى التنبيه كانت قد انتهت أيضاً القطعة الثانية الكبيرة من صينية المكرونة التي تشتهر أمي بمهارتها في صنعها. أنظر إلي العيون المسرورة.لا تمل من تقبيلي رغم الطعام الذي يملأ فمي. طمأنتني علي أبي المسافر دائما وأكدت لي أنهم سيفرجون عنَّا قريباً. هكذا وَعَدُوهم حين اتصلوا بهم ودعوهم للزيارة. السجَّانات تقفن في ودّ ورِقَة المتسولين. ألمحهم يتحدثون عن روائح لا يعرفوها من قبل ونفس الرقة والدعاء أمام الأهالي بالفرج القريب والنجاح والسلامة ثم انتهاء الزيارة. قبّلتني أمي في صلابة وقبل أن تمشى قالت:

- المأمور طلب مني أعقَّلِك لأنك سيخ.. أنت سيخ؟ المهم اهتمي بصحتك وذاكري. كل كتبك أحضرتها لك ودكاترة الجامعة سوف يعطونكم درجات الحضور وسوف تخرجون قريباً.

أنا أيضاً لم أعلم ما معني السيخ، راح عقلي يبحث عن المعني فوجدت السيخ الذي مرروا عليه شيئاً طرياً كالدهان وأدخلوه شرج سليمان الحلبي في ميدان الرميلة عقاباً على مقتل كليبر الحاكم الفرنسي الذي نصَّبه بونابرت علي مصر بعد رحيل الحملة الفرنسية. جاء الفتى من حَلَب دارساً في الأزهر وقتذاك ولمَّا أوجعته مشاهد الظلم بطول البلد وعرضها، ذهب إلى الشيخ الشرقاوي يستفتيه في قتل كليبر رمز الظلم، فبارك الشيخ الفكرة وأخذ سليمان يتحين الفرصة حتى واتته، فرأى أمامه كليبر يتمشى متكبراً مُطمئناً في حديقة الأزبكية فاستل الولد خنجره المندَّسُ في حزام جلبابه وطعنه حتى الموت غير عابئاً بالعواقب.

والسيخ الآخر حكى عنه إيفو أندرتش في روايته”جسر على نهر درينا” حين أمر الأغا -حاكم الصرب ومحتلها- جلاديه بإطالة مدة عذاب البطل الوطني بحرفيّة ماهرة عند إدخال السيخ من مؤخرته وإخراجه من كتفه في الميدان العام عبرة أمام بقية الخلق. لعلَّه يقطع الطريق على الآخرين الرافضين للإحتلال التركي والمقاومة الشعبية. هكذا.. للتاريخ عوراته أيضاً.

لم نخرج في غضون أيام كما وعدوا الأهالي، لكن الزيارات انتظمت وأخذ الأقارب يتفننون في إدخال البيانات والمنشورات التي تصدر تطالب بالإفراج عنَّا، فقد حصلت ماجدة على بيان عن دورنا في الانتخابات الطلابية القادمة داخل فراغ التجويف الداخلي لترمس الشاي. قرأته سوزان علينا:

(*السلطة البرجوازية البيروقراطية في مصر وجهت عدة ضربات للحركة الطلابية في إطار خطتها العامة لتصفية الجو السياسي في البلاد ونجحت في تجميد الاتحادات الطلابية ووضع اللوائح الجامعية التي تحرم على الطلبة الاشتغال بالسياسة وإباحة الفصل لأسباب عديدة. وبعد أن نجحت السلطة في تجميد الحركة الطلابية، أباحت تشكيل الاتحادات الطلابية بالانتخاب مع إعطاء سلطات الجامعة حق التدخل وشطب المرشحين غير المرضي عنهم حسب اللائحة التي مزقت أوصال الاتحاد وحوَّلته إلى لجان توعية شكلية همهم الشاغل نهب أموال ميزانية الاتحاد.

**وفي أحداث فبراير 1968، عجزت السلطة عن تغطية مطالب الجماهير التي تسببت في هذه الأحداث. يجب علي كوادرنا أن تخوض معركة الانتخابات، مسلحة ببرنامج طلابي يربط المطالب النقابية الطلابية بالقضية الوطنية، ويفضح محاولات السيطرة علي الاتحاد وتحويل المعركة من معركة شخصية مصطنعة إلى معركة سياسية تتصارع فيها الاتجاهات التقدمية ضد الانتهازية والرجعية والسيطرة البوليسية.)

في الثالث من أكتوبر، أفرجت الدولة عن كل الطلبة والمعتقلين السياسيين. حين أنهوا إجراءات الإفراج عنَّا، كنَّا نعرف أن سائقي سيارات الأجرة التي تصطف أمام مبنى مباحثأامن الدولة هم مرشدين تابعين لها، لكنَّا قررنا اتخاذها طالما نحن في طريقنا إلى منازلنا المعروفة لهم سلفاً. نقترب من الفجر وأشواقنا ما عدنا قادرين على حملها. أشواقنا للناس.. للزحام.. للشوارع.. للأهل.. للأمان… آه يا قاهرة..ما أحلاكِ في هذه الساعات!

قلت للسائق: شبرا يا أسطى. أجوس بعينيّ عاشق في الشوارع والمنحنيات، الحواري والميادين الهادئة الآن. سيارات الأجرة، جدران البيوت وأرض الشوارع. أفيشات الأفلام المضيئة. أبطال فيلم” خللي بالك من زوزو “ الذي أخرجه مخرج الروائع هذه المرة بناءاً على طلب الداخلية لا الجماهير. لماذا أُحبُّكِ يا قاهرة؟ رغم الغبار الذي يكتم أنفاسنا في نعومة مخنثة، يتسلل يصنع طبقات سقفية تمنع ضوء الشمس في عز الصباحات وتنتشر الرطوبة التي تطبق الصدر مثل تلك التي تخنق السجناء وراء القضبان. وقف التاكسي فجأة أمام بيتي، ضحكتُ أَخرُجُ من هيامي بالبيوت والأشياء ودهشتي لوقوف التاكسي. سألت الرجل: كيف عرفت أننى سأنزل هنا؟ قال متلعثماً:حضرتك قلتي لي ونحن أمام تمثال لاظوغلي. قلت له: “يا راجل؟” ونزلتُ وأغلقتُ الباب وأنا أمدُّ خطوي إلى مدخل البيت. علا صوته خلفي: “يا آنسة؟ البنديرة!” قلت له كما قال جحا في أحد نوادره: “دفعتها عندما أخبرتك بالعنوان”. رميتُ عيني علي الشرفة. وجدتُ أُمي بجوار أبي تقبض علي السور. صعدتُ.

***

الهدوء يصيب كل الأماكن كالعدوى. من مات له ابناً مثل من بوغت بقرار الحرب الذي اتخذه النظام على مضض لحل الكثير من المشكلات التي يعاني منها هو والواقع كله معاً. ومع العام الدراسي الجديد كان أغلب القيادات الطلابية راسبون وباقون للإعادة ماعدا السنوات النهائية، فمن كتب منهم حتى اسمه نجح. وبدأ مسيرة البحث في مشوار حياته العملية فأغلب الأسر من الطبقة المتوسطة والفقراء. لكن الكثيرين مثلي قدمنا أنفسنا للعمل التطوعي في المستشفيات وكنت مع زميلات طب القاهرة ضمن متطوعات القصر العيني.

الممرات والدهاليز الطويلة الرطبة التي يعج بها القصر العيني تتحول إلى خلية نحل، الحركة لا تكف من العاملين والأطباء والمتطوعين والمرضى والجرحى والأعداد الغفيرة من الأهالي الذين جاءوا على أمل أن يجدوا أبناءهم ضمن الأحياء ولو جرحى. امتلأت أرضيات العنابر والطرقات بمخزون الوسائد والبطاطين مختلفة الأشكال والأنواع. ذوي الأردية البيضاء يأتون دون استدعاء. السيارات العسكرية والمدنية لا تكفّ عن المجيء وصفق أبوابها لا ينتهي، تجري مسرعة ويأتي غيرها ويجري طاقم العاملين والمتطوعين يحملون الجند، يساعدون من يقدر علي المسير ويسكنونه في عنبر إصابته. الطرقات المتعرجة أمامي لا تنتهي، تحفظها أقدامنا الآن. قرأت اسمي في القائمة التي علَّقوها بعنبر الحروق. نومئ بتحية الصباح لنزلاء الأسِرَّة البيضاء، ترد عيونهم الملتمعة في وجومٍ مغترب. تتبلور رائحة الجلد المحترق أمامي، يصبح لها ملامح وأبدان لجلدٍ لم ينطفئ لهيبه بعد. رائحة تذكرني برحلات المدرسة إلى الأهرامات، نتلمس في تلصص تَرِكة أكبر الأهرام، ندخل هرم خوفو.. لم يقدر البعض علي تكملة الولوج إلى داخله، فرائحة الموت والقِدَم هناك تطغي علي الشموخ وتنتصر علي التاريخ، تُفرِغ بالونات الصدر من الهواء. الآن اعتاد أنفي رائحة الحروق. الجند، كل الجند، لهم ملامح واحدة، متشابهة، الأعين مفتوحة أو تكاد تتحرك داخل دوائر منتفخة. الوجه متورم يمتلئ بالبقع الحمراء الداكنة أو الفاتحة، درجاتٌ من الهالات السوداء تُغرِق الملامح الشابة. تسقط بعض القشور ويتبقى البعض الآخر في تشققات عميقة عند تجويف الذقن. نُقطِّع الخبز الطري قطعاً صغيرة مغموسة بمسحة من الطعام. يفتح الجندي الفم المتشقق، يغمض عينه ألماً ينتفض قلبي له. عشرين سريرا تفشل نباهتي في التعرف علي أصحابها كل يوم. فاجأتنا جلبة خارج العنبر ثم أصبَحَت بداخله. لفيفٌ من سيدات المجتمع الأنيقات يتجولن بين العنابر في ملابس القصور. العربة الزجاجية تجرها إحدى الممرضات تُحرِّك القوائم المعدنية والعجلات ناحية كل سرير، تحمل السيدة الأنيقة لفائف الهدايا: معجون للأسنان وكريم للحلاقة وماء عطري لبعد الحلاقة! كلٌ في لفافةٍ يشتبك طرفيها بشريطٍ حريري أحمر من نفس النوع الذي تتأنق به الكلبة الكنيش البيضاء ذات الحزام بقوائمها القصيرة، وشعرها الكثيف يغطي عينيها. تتمسح في أقدام السيدة التي كانت توزِّع الابتسامات مع اللفافات. تتسمر المرأة لثوانٍ بجوار كل سرير، تنظر للمصوِّر الذي يصاحب الوفد النسائي من سيدات المجتمع. تنظر له حتى يلتمع الضوء في يده. ألقي أحد المتطوعين بمزحة ثم أحس بالذنب للقهقهة التي يكتمها الرجال لشدة الألم. صراخ رئيس القسم يزحف إلى العنبر والحركة يتزايد ضجيجها في الردهة الخارجية. الكل يجري في كل اتجاه. التروليات الحديدية تصر عجلاتها علي الأرض. الجرحى أكثر من استيعاب العنبر والمستشفى وأطقمه! المحفَّات يحملها العاملين وعليها الجند ولا يدرون إلى أين يذهبون ويريحون الغائبون عن الوعي والمحترقين. اقتربتُ من جندي كان وحيداً مغبراً يحجل بقدمٍ ويحاول ألا يقع. جريت إليه أسنده: ضع يدك على كتفي. لا يهمك. ثم أرحته في حجرة الحكيم النوباتجي وأنا أسأله:

- الوَحش من السويس أم الإسماعيلية؟ كزَّ على أسنانه مغمض العينين ورد هامساً:

- من جهنم!

بينما أجري في الطرقة أبحث له عن مساعدة، رأيتُ أحد ساكني العنبر يلقي بزجاجة الكولونيا بطول ذراعيه بعد خروج الوفد النسائي.

لا أدرِ كيف أصبَحَت الامتحانات هكذا علي الأبواب، وأنا أفقد رغبتي في المذاكرة وفي كل شيء بعد اختفاء نبيل طوال الأشهر الماضية. لا أريدُ أن أصدق أنه لا يفتقدني ولا يحاول أن يراني. في الجامعة عرفتُ من زملاءنا أنه وجد عملاً في المجلة الشهيرة وأنها “تأكل” وقته كله. كيف أصدق يا الله؟ كما لم أصدق أن يختلف رأي الدكاترة وموقفهم منَّا. أحسستُ بالورطة والحصار. لابد من استيعاب المنهج، فكفى أمي وأبي ما رأوه حين الحبس وإصراري على رفض من يحضروهم من عِرسان. الأهالي باتت تخافُ علينا من بطش الحكومة ومن عنادنا، يرسلون الأشقَّاء يرافقوننا من الجامعة إلى منازلنا حتى في أيام الامتحانات، كتلاميذ الابتدائي. بعضنا أصبح ممنوعاً من الردِّ على الهاتف أو الذهاب بمفردهم إلى أي مكان. حتى أبي، هدد بسحبِ ملفِّي من الكلية. الكل مصدِّق ومقتنع بمقولة الرئيس المؤمن “إن الطالب طالب علم وبس”. علينا إذاً أن نترك شئون البلاد للكبار، نمارس النشاط الذي يرضى عنه ويوافق عليه اتحاد الطلبة المُعيَّن من قِبَل إدارة الجامعة، فقد قام أولي الأمر بواجبهم المقدَّس الذي راح ضحيته الآلاف بين شهيدٍ وجريح وسحبوا بحربهم البساط من تحت أقدام الحركة الوطنية وتاهوا في دهاليز المساومة والزيارات الأمريكية المكوكية التي لا تنقطع.

الجماعات الإسلامية تستولي علي اتحادات كليات القمة وأصبح الزى الإسلامي الذي كان يرتديه أهل الجزيرة العربية منذ أكثر من أربعة عشرة قرناً يرتديه أغلب تلامذة الطب والهندسة. يا الله ما الذي سيحدث لك يا بلد؟ من أين ستأتي الطعنة القادمة؟

بعد انتهاء الامتحانات، وَقَعَ أبي ضمن من وَقَعُوا في الأحداث المؤسفة التي أثارتها الحكومة وأسمتها بالفتنة الطائفية. كان يجلس عند صديق عمره “ونيس الصائغ” حين أتي الملثَّمون ودمَّروا زجاج المحل على من فيه ثم أعملوا في من تطوله أيديهم من الناس ضرباً وتقتيلاً بالجنازير والقبضات الحديدية والسيوف والمُدى. لم يحتمل أبي، وراح ضمن من راحوا وتركني وأمي أكثر وحدة وأشدُّ ألماً.

لم يتصل نبيل أو أراه حتى بعد ما حدث لأبي. بعثتُ أحد أصدقائنا إلى المجلة التي يعمل بها يخبره بما حدث ويطمئنني عليه. هالني ما بلَّغَني به الصديق بأنه غادر البلاد. أهكذا فجأة؟ والخطابات؟ والحكايات؟ والشعر؟ … والحب؟

***

بعد بضعة أشهر، كنت أجلس أحتسي الشاي مع أمي. أَلحَظُ تبدُّل حالها، إحساسها بالانكسار وحزنها الخاص والعام الذي أنساها التغنِّي بأحلى الأغنيات القديمة تُسرِّي بها عن نفسها في حركتها بين الغرف وانشغالها في المطبخ. اكتفت بإدارة مؤشر المذياع بين إذاعة أم كلثوم وإذاعة القرآن الكريم. تجلس أمامي تكمل تطبيق كومة الغسيل النظيف الذي يحفُّ برائحة صابون “صان لايت”. ترمق صورة أبي وأسمع ترحُّمها عليه في خفوت وأنا أدّعِي القراءة. لمحتني أرقبها، ألقت عليّ بنظرة علَّها تغلق بئر حيرتي وعجزي عن إسعادها ورغبتي في التساؤل. ولمَّا ادعيتُ التجاهل، جَلَسَت بجواري، قلتُ:

- أقلقُ عليكِ يا أمي من حزنك وصمتك، أنا لم يبقى لي سواكِ الآن.

ضممتها إلى صدري، سكَنَت إليّ في استسلامِ طفلٍ، ربتت على ظهري وقالت:

- كل الناس حزينة يا بسمة.

- مرَّت سنتين علي وفاة أبي، فلم لا تخلعين السواد؟

قالت وهي تحبس دمعها وكأنها تهمس:

- السنين لا تُنسينا أحباءنا. كل بيت راح منه جدع في عز الشباب، سن العرس. سنك يا بسمة. وأبوكِ اللي راح هدر، وحال البلد المايل… من يملك القدرة علي مجرد الابتسام يا ابنتي؟ سامح نسيني وراح. وأنتي اتخرجتي ولم تعملي و لا تتزوجي.. علامَ الفرح؟

تحكي أمي واستمتع بها وهي تستفيض في الحكي عن خالي سامح وأشرد وسط إسقاطاتي التي أُغرق بها نبيل شبيه وصديق خالي. أكملت أمي:

- لا أصدق يا بسمة أن يتغير خالك مثل كل الناس. من كان يرانا ويسمع حواراتنا لا يصدق أني لست أمه. كل أسراره عندي يحكيها عن طيب خاطر. لم يكن بيننا مسافات، ربما أكثر مما كان يفعل أبوك. لم أصدق أن يسافر دون حتى أن يخبرني.

هي تجترُّ أحزانها وخيبتها وأنا أحس أني علي الأقل لست وحدي؛ فالهجر والغدر لابد أن نتوقعه من أحباءنا دون محاولة للفهم. أحتفظُ بخطاباته أواسي بها جهلي وأصرُّ علي البقاء بعيداً عن أي علاقة.

تُكمِل أمي: لا أدري إن كنت سأراه ثانيةً يضحك كعادته قبل أن أموت.

كنت أخفف عنها لكني لا أجرؤ أن أعدها بالفرح الذي تحلم به. فلا شيء يدعو المرء هذه الأيام للفرح. كيف نستمتع بانفعالاتنا الطبيعية وسط كل هذا التشوش وعدم الفهم والإحساس الدائم بالفقد الذي يعتصرنا؟ أحياناً أتهم نفسي بالغباء حين أرى الهمَّ العام يطغى على همومي الشخصية، يتسيَّدُ المشاعر ويدعو للبكاء حين الانفراد بالنفس.

أرتشفُ الشاي دون استمتاع وأنا غارقة بين صفحات ذاكرتي، أستدعي أسماء وملامح الزملاء والزميلات والرفاق. لم أعد أعطي أهمية سوى لأمي وأقضي أغلب الوقت في البيت أقرأ أحياناً شاردةً، أرسم دوائر متداخلة حتى يجيء النعاس الذي بات مليئاً بالكوابيس. أفقتُ علي هتافِ أمي بفرحٍ باكٍ مرتعش: الحمد لله إنَّك فاكر إسمي… إخص عليك يا سامح.. وحشتني قوي يا مُجرم.

خطفتُ منها سماعة الهاتف أتأكد. أخبرني أنه قادمٌ للعيش معنا في مصر بشكل نهائي، وأن أحداً يريد أن يحدِّثُني وترك له السماعة: أيوه يا بسمة.. أنا نبيل يا حبيبتي.

ولمَّا لم أردُّ من أثر المفاجأة، تحدَّث خالي: ستعرفين أشياء كثيرة وسعيدة يا بسمة. لا تتعجلي. الفتى يحبك فعلاً. لا أصدِّقُ أنكِ كبرتي وتحبين.

ما الذي يحدث؟ هل تترسب المشاعر أشهراً وسنيناً وترقد العواطف؟ هل تُنسى لحظات الغربة التي كالدهر طولاً وألماً؟ ليتك مت! من آخر امتحان في 1973 لغاية نهاية 76 ؟ هل يتحدث خالي وهو ليسخرا منَّا؟

وأمريكا؟ دوناً عن العالم كله؟ بلد الإمبريالية؟ أيرجعون الآن بعد أن أصبَحَت الجامعات خالية من أي قيادات طلابية؟ كيف تركوا الجماعات الدينية تنفرد وحدها بالساحة، تمارس البلطجة بدمٍ بارد؟ كيف نجحت الحكومة في دفع شبابٍ واعٍ مثل نبيل وخالي سامح إلى الهرب من الكبت والاعتقال، تاركين الساحة للجماعات الدينية يفعلون ما يحلوا لهم ويمنعونا نحن وباقي القوى الوطنية من أي تحرك أو تجمع؟ حرس الجامعة يحرسون مقاييس النظام الحاكم. الانغلاق أصبح تاماً في الحياة السياسية. أتعودون لتصبحوا “رجال أعمال” بمقاييس البيزنس الخاصة بالانفتاح؟

مرت أشهر ثلاث علي انتهاء “انتفاضة الحرامية” وعلى وصول خالي ونبيل. الآن الدعوة جاهزة للانفتاح علي الأسواق الغربية. “ادخلوها بسلامٍ آمنين”.. لافتة أراها في كل مكان. قانون الطوارئ يعربد طليقاً وحيداً على سطح الحياة الآن. حمدتُ الله مثل أمي أني كنت أصارع حمى غير معروفة في القصر العيني أثناء مظاهرات يناير 77 و إلا كنت انتحرتُ على أقل تقدير لو تم القبض عليّ دون وجود فاتن التي استعجلت الهروب من أسر اليُتمِ وتزوجت وذهبت للبلد العربي تُدرِّس لهم الفنون الشعبية. حتى أنتِ يا فاتن؟ كيف تعيشين مع أول من طرق بابك لمجرد أنه يملك الريالات والدولارات رغم أن عمره ضعف عمرك؟ حين سألتها هذا السؤال قبل سفرها قالت:

- انتهى عهد الفلسفة والزمن الجميل. زمن الحلم. إنسي كما نسيتُ أنا مقولات “العدل والحق والخير والحب”. إنسي قاعات الدرس، فأساتذة الجامعات سافروا قبلي للبلدان العربية. إنسي الحب فهو ككل الأساطير، لا وجود له. العجلة باتت طائشة تسير بسرعة مجنونة فوق الأرض المزدحمة بالضعفاء والمستضعفين، لن ترحم من يقف. ورئيس بلدك أعلنها صريحة: دعوة مفتوحة للثراء السريع المُوجَّه، وأنا يا بسمة لا أملك حق ملء الاستمارات هنا في بلدي، واقعٌ امتلكُ فيه بالكاد رأياً وشهادة تخرُّج وعُمرٌ يسمونه عمر الزهور. سأخرج للعالم أرى ما كنت أسمع عنه ولن أخسر شيئاً جديداً، فما تمَّ فقدانه فُقَدَ بالفعل. صدقيني لن نخسر شيئاً. على الأقل سأفعل أشيائاً تخصني حتى لو كنت لا أحبها بالقدر الكافي. لكنِّي أُحبُّك أنتِ جداً يا بسمة.

أنا أيضاً أحببتها ولم أعرف الصمت أو الإكتئاب إلا بعد رحيلها. أخبرَتني في آخر مهاتفة أنها تسافر كثيراً وأنها تقابل في ترحالها الكثيرين ممن كانوا رفاقاً وأن أمزجتهم الآن لا تتعارض مع ارتداء “الجينز” كما في السابق. تواظب هي علي مهاتفتي بعد منتصف الليل، وقت يدير شراب الوحدة رأسها، أخبرتني أنها لا تستطيع الإنجاب لأن رَحِمَها طفوليّ لا يقدر أن يحمل طفلاً وأن التبني شيئاً معادلاً، تفكر فيه بتردد. تتندر وتخبرني أنها قد تضرب كل قوانين الوراثة، من تَرُق لها ملامحه أو لون عيونه وحجمه، سوف تختاره. أحياناً تكون الأشياء أسهل من توقعاتنا رغم أنف مندل!

صوت خالي في الهاتف يخبرنا بأن أحداً ينتظرنا في تلك اللحظة أسفل بيتنا وعلينا النزول سريعاً لنراه في مسكنه الجديد.

***

أسفل البناية كانت المرسيدس البيضاء واقفة كحمامةٍ مغسولة. نزل السائق وفتح لأمي الباب الأمامي ثم أسرع وفتح لي الباب الخلفي لأجد نبيل يجلس، يخفيه الزجاج الغامق. امتلأتُ غضباً وحنقاً. أتحاملُ وأبعد بعيني حتى لا تخونني مشاعري المتضاربة. أُحدِّثُ أُمي هرباً:

- نبيل، صاحب خالي.

تسلِّم عليه وتحاول أن تطمئن منه عن حاله وساعة وصوله. تتأكد أنه لن يغادرنا مرة أُخرى وتحمد ربها أن هداهُ أخيراً. أُخرِجُ رأسي من النافذة، يصفعني الهواء، أتصفح في غياب أطراف ضاحية مصر الجديدة والأشجار الكثيفة المتشابكة والشوارع الهادئة ولافتات الإعلانات الضوئية الكثيرة، وصور الرئيس بالبدلة “الهتلرية” العسكرية، إلى أن دلف السائق من أحد شوارعها الجانبية ثم دخل عبر بوابة الفيللا الجديدة. عندما أغلق السائق أبواب السيارة، سمعته يقول: حمداً لله على السلامة يا دكتور!

هل تلازمني أحلام اليقظة لا تزال؟

أُتابع المرسيدس وهي تغرق داخل مرآب الفيللا الخصوصي. علي السلم يقف سامح رشيقاً بعد أن ترك نصف حجمه هناك في الغربة: قمري الجميل؟ لم أصدق بلبل حين وصفك!!

تهتُ في حضنه، كادت الدنيا أن تلفّ بي. وحين صعَدَت أمي، بكت في أحضانه ولم يتحدثا حتى زالت الدهشة وتبدَّلت بأنواع العتاب.

في الحجرة الأخيرة للفيللا، جلستُ مع نبيل أمدُّ له يدي بخطاباته. وضعها علي المقعد المجاور وأخذ يشرح لي منذ أن طَرَدَهُ أبيه حتى عرف من أحد المراكز الثقافية بوجود منحة دراسية لنيل درجة الماجستير، وعرف أن سامح يعمل في ذاك المكان. لم يكن أمامه سوى أيام قلائل قطعها في البحث عمّن يقرضه ثمن التذكرة وجواز السفر وتأشيرة الدخول لحين إعطاءه النقود. لم أسأله عن عدم محاولته مهاتفتي أو مراسلتي، لإدراكي أن سكني دائم المراقبة.

استجبتُ لقبلاته وجففتُ دمعه وجفف دمعي وتكوم شوقي أمامي عبئاً ثقيلاً ينتظر الإذن تُتوِّهُني الدهشة بينما أخذ يصفق مبتهجاً لغفراني له، يرقص سعيداً كنباتٍ ظمآن غسله المطر تواً. أحببتُ جنونه وأخشى ثانية أن يفر من بين أصابعي ولا يتبقى لي شيئاً.

أسمع خالي يعتذر لأمي “لن أتركك مرة أخري”. أجيء وأجلس بجواره صامتة تتفجر مسام وجهي سعادة لكني لا أردُّ، فالرغبة في عقابه على تركنا وحيدتين في وفاة جدتي وأبي جعلتني أصمت حتى دخَلَت علينا زوجته الأمريكية وعرَّفَنا بها: مسز سامح، بربارة فولبرايت. قلت لها: Welcome to Egypt. ردت هي: أهلاً وسهلا بسمة. تفضلي ارتاحي.

رغم كل الغموض الذي أحسه وأستبقيه لحينه، إلا أنِّي أحسست بالدنيا تلفُّ بي طرباً لهذا التواجد العائلي الحميم الدافئ، أنا وأمي وخالي ونبيل معاً! حسَّاً بأني أمتلك الدنيا كلها في يدي غطى مشاعري. نجلس ونتحدث ونشترك في الحديث. تتعرف أمي على نبيل وتتفهم الذي بيننا. سألني خالي في أذني: الواد نبيل بيحبك وأنا متأكد من مشاعره. إيه رأيِكِ نجوِّزكم ونِخلَص منكم؟ لمحتُ ابتسامته التي أعشقها تضيء على صفحة وجهه. قلت له في تمنُّع راغب أسيان: لا أعرف أحداً بهذا الاسم.

بربارة تدخل الحجرة المجاورة وتروح منها إلى المطبخ ترقبها أمي وتعلِّق:

- تتزوج ولا نعرف، هذا ممكن. لكن في سن أمك!

أفهمها خالي إنها تحبه وأننا جميعاً سنحبها وسنفهم الموضوع أكثر فيما بعد. أخذا في الإعداد برأسيهما للفرح: فرحي أنا ونبيل. جلب الخادم حقائب الهدايا وفي آخر لحظات الليل أخبرنا أن الدور الأول في الفيللا له والثاني لنا أنا وأمي ونبيل. أجلس أستبشر خيراً بانزياح الهمّ الثقيل عن صدر أمي وعن عقلي الذي ضاق من التفكير والتفسير واستحضار التبريرات. غمرني الحس بأن أهلي كلهم عادوا حتى أشقائي الذين فقدتهم أمي في اجهاضاتها المتكررة.

أشتاق أبي كثيراً هذه الأيام. أتذكره وأراه أمامي أحياناً كثيرة يقدم لي التهنئة علي عُرسي وعلي شهور حملي الأولى يتمنى أن يرى حفيده. وأحزن لأنه لم يكن وكيل العروس وليس له نصيب في صور الزفاف، كما لم يعش لحظة تخرجي ولا بداية عملي مع خالي ونبيل وبربارة في البناية التي يملكونها علي النيل. لن يرى حملي ولن يداعب حفيده. أشعر بوجوده وأسمع صوته في حواراته الهادئة معي رغم إزعاجي له بتساؤلات لا تنتهي. دائماً يتهمني بتبني نظرية المؤامرة ويرى أني لن أرى السعادة كثيراً في حياتي بسببها. قلت له ذات مساء بحماسٍ بالغ:

- افهمني يا أبي، عبور جيشنا لأكبر الموانع المائية بهذه الكفاءة يؤكد أننا كان لابد أن نثبت قدرتنا للعالم في تكملة الحرب الحقيقية وليست هذه الحرب المسخ.

يتركني أكمل وهو يصغي في اهتمام وأنا لا يقل حماسي أقول:

- خط بارليف الذي حطمناه في معركة كبيرة للدبابات وأمطرنا إسرائيل بخسائر في أعز ما لديها؛ أبنائها، قوتها التوراتية الاستراتيجية، لماذا لم نكمل الحرب؟ إننا أكبر تاريخ وأكبر ثقل في المنطقة.. كيف نتنازل هكذا ونوافق على “حق جوار” أعداءنا- أعداء كل المنطقة العربية؟ ألم تكن أنت ضمن من أُسِروا في 1956؟ هل فقدنا الرغبة في العيش بكرامة وعزة؟ نضرب عرض الحائط بتاريخنا كله بتخاذل مخزٍ؟ ومن أجل ماذا؟

يصبر عليّ أبي، أحلى صفاته. يتركني أفرغ شحنتي الغاضبة وأكمل ما أريد قوله. يتمعن حيرتي ، يدلف داخل دوامات اضطرابي ورومانسيتي، سذاجتي أحياناً في كلماتي المندفعة الحارة. يصبر عليّ ثم يتحدث وهو على جلسته المفضلة قبالتي مستنداً بظهره إلي الأريكة:

- صدقك الجميل أكثر ما أحبه فيك، لكن سنك الصغير يمنعك عن إدراك أشياء كثيرة. كان من الممكن طبعاً أن تحدث حرب القرن على إسرائيل لكن هناك أيضاً أشياء مهمة وكثيرة لا غنى عن فهمها. التواجد العربي عنين ومخذول وحكوماته العربية تصفي أي حركة أو صوت، مصاصين دماء أصبحوا يمتلكون الساحة وحدهم في المنطقة. تعالي معي نفنِّد ما حولنا من مصطلحات دخلت علي القواميس ونامت بين صفحاتها كأمر واقع مثل: (موازين القوى): فالعالم يا بسمة تحكمه مصالح وكلما قويت الدول تكبر مصالحها وتتوحش .. وتستأسد والمصالح هي أطماع في الغير، وهنا فالضعف لا صوت له والضعيف لا يتعاطف معه أحد. قد يبكون على حاله لكن الحياة تسير. أنا معك أن ما دار على جبهات القتال ليس حرباً ولا يحزنون من وجهة النظر العسكرية، لذلك هي لا تروي ظمأك ولا تجعلك تحسين بالفخر وتتخلصين من الشعور بالعار وتهاون الحكومات العربية كلها وطعم الاستسلام. فهذه طريقتهم في الحياة لا يعرفون أي معنى كبير للشرف أو الأرض والعرض. إن كل هذه الأشياء لا تفيدهم، الجاه والثروة أهم اختياراتهم وأي شيء بعد ذلك حتى لو فيه فناء كل الشعوب العربية لا يهتمون به. هم فرضوا علي الناس عبر إعلامهم أننا لن نتمكن من استرداد الأرض إلا بمقايضات (هات وخذ) علي غرار بيوت الرهونات التي أزعجت كاتبك المفضل ديستويفسكي وسجلها في رواياته. فما تم يا بسمة كان ضروري لتحريك الوضع وتسهيل طريق التسوية. ببساطة: في كل الدنيا منذ بداية الكون هناك حاكم ومحكوم… أقاطعه بسؤال:

- لو لم يمت جمال عبد الناصر لتغيَّر الوضع. يرد ببساطته المعهودة:

- ما يحدث في مصر الآن والى أن يختفي هذا النوع من الأنظمة العميلة هو نتاج الحكم العسكري وأثرياء الحرب الذين أُطلِقَ عليهم اسم “ القطط السمان” هم نتاج قوانين يوليو والسيطرة علي القطاع العام الذين اغتالوا وحداته نهباً منظماً مدروساً حتى النخاع وغداً إن شاء الله سوف يبيعون البلد قطعة قطعة.

آه يا أبي مهما اختلفت معك أحبك وأشتاق إليك، رنة صوتك الهادئ الواعي وعفويتك الفطرية.

اصطحبتُ السائق معي إلى باب المقبرة. تركته ينتظرني ودخلت الحوش تستوحشني الرجفة: هل معقول أن أبي أصبح حفنة من العظام ملقية في أحد أركان المقبرة؟ أجلس وأقرأ “الرحمن..علم القرآن..خلق الإنسان..علّمَه البيان…”. يشرد عقلي: هل فعلاً أنه يرقد في الظلام أسفل الدرج علي وضعه منذ أودعناه هنا؟ “والأرض وضعها للأنام.. فيها فاكهة، والنخل ذات الأكمام” أنظر ناحية المستطيل الذي رشّه الحارس بالماء “ كل من عليها فان..ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام”. يقولون أن الميت لا يحسّ ولكني حدّثتُ أبي بعد أن أعلنوا وفاته. أحضروه إلى بيتنا مغشياً عليه إثر هجوم مرشدي الحكومة ذوي اللحى والجلاليب. كان يخصص مساء كل خميس ليغلب عم ونيس في لعب النرد عند مدخل محل الصاغة الذي يتشارك فيه مع أشقاءه وولده وهيب.

أخذتُ رأسه فوق حِجري أُحدِّثُه بدموعٍ ثكلى. نظر إليّ بعيونٍ غائبة وقبض على يدي ولمحتُ دمعة يتيمة تجري في بطءٍ حارق فوق خده الأيسر. هل تدمع عين ميت؟ ماذا لو أراه الآن يجلس يستعذب الهدوء، عفِّياً لم يمت؟ هل يوجد احتمال؟ ساعدني الحارس وسط دهشته علي إزاحة التراب عن المستطيل الأسمنتي المقسم إلى مستطيلات طويلة، يقول كلمات كثيرة، يستغرب، يعظني، ينهيني، لكني لا أسمع، يظهر خوفه عليّ وعلى من أحب ويثنيني عن فتح المقبرة خوفاً من الفأل السيئ ثم عرض أن يصاحبني لكني رفضت وصرفته فمكث بعيداً يتابعني في استغراب. سأراه حياً جالساً جلسته المفضلة في يده كوب الشاي. لماذا لا يجددون الهواء هنا؟ لا يهم، سأنزل. أتشوق لرؤية أبي. الضوء الذي كان يملأ السماء في هذا الصباح يصاحبني. وجدته كما توقعت. علَّه كان في انتظاري يشتاق إليّ أيضاً. من أين كل هذه الكتب المرتبة النظيفة والمحابر والأقلام؟ اقتربت منه:

- سلامٌ إلى روحك الغالية يا أبي. قال:

- تعالي. كنت انتظرك. اجلسي.

في لمحة خاطفة وحيدة نظر إليّ، كان الإجهاد بادياً عليه، منهمكاً يعمل شيئاً، كرر جملته:

- اجلسي بجواري.

سألته ماذا يفعل، قال:

- أكاد انتهي من وصفة الدواء.

لونه شاحب ، أريد أن أضمه إلى صدري. تماسكتُ وداريتُ مشاعري، دمعي يجري بفيض لا إرادي زائد. سألته في حذر:

- لمن هذا الدواء يا أبي؟

رغم صوتي المخنوق ميز سؤالي ورد في ثقة:

- لكم جميعاً يا ابنتي.

كدت أنطق أخبره بزواجي وبأحزاني التي لا أعرف مصدر أغلبها، وبافتقاد أمي الشديد له، وأن خالي سامح عاد. لكنه فاجأني بقوله:

- أعرف كل ما تفكرين فيه. مبروك يا ابنتي.. أنا أجّهز مكاناً لأضم أمك معي.. كفاها ما عانت. الآن اتركيني حتى أكمل الوصفة كي أتفرغ لأمك، رفيقة عمري.

***

أصبحت أيام السبوت والآحاد هي إجازاتنا الأسبوعية –Weekends- نقضيها مع سامح وبربارة التي أجادت الفصحى والعامية بعد دروس مكثفة في الجامعة الأمريكية. يقبع مكتب بربارة في الطرف الأيمن ومكتبي في الطرف الأيسر بالمركز الذي أنشأَتَه هي و خالي لحقوق الإنسان.. باكورة المراكز التي سوف تستخلص حقوق المواطن في الحرية والديمقراطية والتعليم والعلاج ومحو الأمية وأمراض الصدر والظهر! سوف تنتهي أعداد الشحاذين المنتشرين حتى في الميادين العامة وتحت الكباري وحول بيوت أولياء الله الصالحين. لن نرى في القريب العاجل الملابس المهلهلة التي يرتديها المجانين الذين يُسرِّحونهم من مستشفيات الأمراض العقلية.. هي صانعة كل الخطط الشهرية والثانوية واليومية والندوات وعناوين الأبحاث وموائد الرحمن التي تنتصب كل رمضان، بينما أُشرف أنا على أرشفة المكتبة التي باتت محتشدة بالإصدارات والنشرات القديمة والجديدة والتي لا أدري لم يتجشمون عناء شرائها. أسماء غريبة تتوسط كتب أغرب (مكارثي والشيوعية- لميرج..والصادر في 1954) (استكشاف أمريكا- لهوارد فاست ووليم كولبي) ومذكرات وايزنر حول اليسار الشيوعي وغير الشيوعي وأعداد من مجلة “الكاونتر” Counter. أرقام وأجندات وملفات مليئة بالأسماء وقوائم لعمليات حسابية وعلامة الدولار الذي رأيته لأول مرة في نهاية الشهر الأول من عملي معهم. ندوات مستقبلية حول الختان وتعدد الزوجات وتغيير الملة لتسهيل الطلاق على الأقباط. أسماء كثيرة مدونة عن المشروعات المستقبلية، تتضمنها التوسعات في المركز الحالي بأقسام “التبول اللاإرادي”، “ علاج ورعاية الزوجات”، “الفلاح المظلوم”، “ جمعية إفريقيا”، “جمعية آسيا”، “الفضاء”، “البترول”، “المنجنيز”، “رعاية الكلاب الضالة”….

لا أريد أن أُخرِج أياً من هذه الإصدارات حتى لا أنسى مكانها وتتهمني بربارة بالفوضوية. رغم حبي للعبث بالكتب والمكتبات، أكتفي بما تحويه المكتبة الفيلمية والشرائط الصوتية المفرغة لندوات المركز. أنصت لتعليقات سامح و”أوامر” بربارة وأتذكر اتهام أبي لي بأن نظرية المؤامرة تسيطر على حكمي علي الأشياء والناس وآرائي في الحياة. زارني سامح في مكتبي يوماً يطمئن على جنيني، وسألني عن رأيي في هذا “الإنجاز” وهو يشير بفرحٍ وتباهٍ للمكان. قلت له:

- كل شيء جميل هنا ولا ينقصنا سوى أجهزة حديثة للتنصُّت.

وضع يده على فمي وأمرني بلطفٍ أن أستفيد من خبرة “سارة” تلميذة بربارة التي تزاملني في الحجرة، والتي لولا اتساعها لأحسست بها تجلس فوق صدري أو حملي.. فملاحقتها وتدخُّلها “اللطيف” في كل آرائي يزعجونني، لكنِّي أحاول تأجيل مشاعري في أرشفةٍ حَذِرةٍ مؤقتة. فكَون خالي يملك المكان يقوِّي ظهري، كما أن زوجي يعمل مستشار المركز القانوني ويكاد يحصل على الدكتوراة. لكن شيئاً ثقيلاً يقلقني دون أن أتفهمه. انشغالات نبيل بِتُّ لا أحتملها. يتركني لحملي وظنِّي أغلب الأوقات وأراه في أيام السبت أو الأحد، فبقية الأسبوع يأتي بعد نومي، أشعر به قُبَيل الفجر يتسحب على أطراف أصابعه حتى لا يوقظني. وفي الصباح يخبرني أنه لم يتأخر البارحة. ثم قرر فجأة أن ينتقل إلى غرفة أخرى “حتى ترتاحين. يكفيك آلام الحمل يا قمري”.

يا الله…

تمرُّ ذكراك السنوية اليوم يا أبي سريعاً. تتركني في وقتٍ مبهمةٌ أشياؤه، قاسية. صورتك لا تزال في مرآة عيني. كنت ترقد ملثماً كفدائيّ لا ينقصه سوى العَلَم بدلاً من ذلك القماش الأبيض الرخيص الذي كانوا يخفون به جسدك الضعيف بعد أن فارقته معالم الحياة.

يغمض عينيه لكني أسمع طرقات قلبه، يكف عن الخفقان لثوانٍ في إيقاعٍ جنائزي، ثم يتعالى في ممرات أُذُني آتياً من البعيد. أمسكتُ كفَّه فقبض على يدي. قوته الباقية أحكَمَت قبضته على كفي يحاول جذبي ناحية فمه. أراه، أحسه، أسمعه، أتشممه، وأرجف.. لا أعي كيف يصبح البدن إسفنجياً هشاً لهذه الدرجة. هل تخرج الروح عبر أنسجة الجسد أولاً؟ عينه التائهة ناعسة، حنون. قال لي وأنا ألصق أُذُني بفمه:

- ليتك ما رأيتني هكذا. لماذا جئتِ؟

أيستفسر عن سبب حضوري من الكلية ورؤيته في آخر لحظاته أم كان يسأل عن سبب وجودي في هذه الحياة أصلاً؟ قبَّلتُ يديه ثم قبَّلتُ عينيه الذاهبتين. قلت أُطمئنه:

- ستقوم منها يا أبي… صدقني.

أحزن لتلك الميتة المنحطة وأشرد أتذكر ابتسامته حين جريتُ عليه يوماً، متحمسة كالعادة، أعلن عليه اكتشافي البريء المذهل. جئته أهلل: رأيتُ أول الخيط الذي يربط القمر ويجعله معلقاً في السماء. ويبتسم عندما تشكو له أمي من غياب سامح ويقول كلاماً لا أفهم أغلبه: “في لحظة نسعد بخلفة العيال يا عواطف، وبوصولهم لسن الرشد، نفرح فرحة النضج وكأنهم لن يصلوا إلى سن الجحود أبداً. للرشد سِن وللجحود سِن، تغذيه هذه النوعية من الحياة التي نحياها للأسف”. تدعو أمي أن يصلح الله الأحوال وأن يتقبلها عنده وعلى قدميها تراب السكة. لم أفهم مغزى الدعاء.

***

يأتي القلق قبل المواسم وقبل الأعياد وقبل الشهور المفترجة ومع مقدم المدارس ومع الفطام وقبل الزيجات وبعد الطلاق والانفصال ونتائج الامتحانات، مع السفر وأثناءه وفي العودة. وأصعب القلق يصاحب الحَبلَى في شهور حملها وقبل الولادة.. هكذا أقنعني الطبيب وكان الفرح دائما يأتي مرتدياً ثياب القلق، وكأنها قدمان تسير عليها الأشياء. فمنذ مدة وأنا لا أشعر بحركة الجنين في أحشائي. تلخَّص الحمل عندي في الهمَّ الثقيل الذي يقبض النفس ويُصعِّبُ الحركة، وآلام الظهر وأسفل بطني أيضاً. “ لا تقلقي” هكذا أخبرني الطبيب المباشر لحملي ودعاني عبر الهاتف أن أذهب إليه.

سمعتُ صوت الباب يغلقه ويعلق المفاتيح كعادته. لم يكتشف استيقاظي من نومي. لا يهتم سوى بالعمل والرسالة وجلسات بربارة وسامح. وإذا تصادف ولمحني، يخرج مسرعاً كالهارب: باي باي يا قمري!

لم اخبر أحداً في العمل باني سأغيب. أنهيتُ حمامي اليومي الساخن وكدتُ أغفو داخل حوض الاستحمام يستعذب جسدي الماء الذي ألجأُ إليه دائماً كدواءٍ عزيز. وحده يساعدني على إراحة أوتار أعصابي المشدودة. السكون في تلك الضاحية الهادئة يدعو للصدمة. أجلسُ بجوار النافذة المفتوحة، أَحمِلُ عبئي أمامي. لو كانت نافذتي تطل علي البحر الآن لرأيتُ أمامي طيور النورس. أُحادثُ أكبرهم تحت قبة السماء الفسيحة والتي تقف تحتها مساحة الماء التركوازية التي يبدل الليل لونها مع المساءات.

أخبرتُ الطبيب عبر الهاتف بتخوُّفي الذي يشبه اليقين بأني لن أعيش إلى سن الثلاثين لكنه قال لي أن هذا إحساسٌ طبيعي تمر به الحامل لطول الأشهر التسعة ولشدة خوفها من الفقد ولشدة ترقُّبها أيضاً بمقدم الوليد. شدة الفرح وشدة الخوف، طرفيّ وتر مشدوداً يعذِّبُ الحامل حتى تسمع بكاء يوم الولادة.

أصنعُ لنفسي القهوة التي أحبها وأسير مغيَّبة إلى حجرة مكتب نبيل دون قرارٍ مسبق. أغلقها خلفي وأسترِح بعبئي على مقعد المكتب. أحتسي قهوتي بتأنٍ وأفتح الدرج الذي يحوي خطاباتنا وقت كُنَّا نحلم بيوم اللقاء وبأيامٍ لا حزن فيها ضمن أشياءٍ أخرى. أخرجتُ المظروف الكبير والذي كُتِبَ عليه بخطه الذي طالما أحببته: (ذكرى أيام الجاهلية الأولى”. أشردُ في الصلة التي عقدها زوجي بين ذكرياتنا التي لازلت أعيش بها وعلاقتها بالجاهلية الأولى. أخرجتُ الخطابات.. هي نفسها، بخطَّينا، بداخلها أحلامنا وتمنياتنا وأشواقنا المكبوتة.. لماذا هذه التسمية؟ هربتُ من أَسرِ خطه الجميل على الذي أَسَرنِي وقت الاعتصام ورهن الاعتقال. كانت حروفه أول صوتٍ يهمس لي بالحب المغاير والمشاعر الجميلة في خضمِّ بحر الحركة والصخب في الزمن الجميل. وقت كانت الأشياء ترفل في يمِّ الفوضى. تحت المظروف أجد ورقة مُطبَّقة في عناية، تاريخ توقيعها قريب. أفتَحُها ومع أول كلماته حمدت الله أني جالسة أستندُ بظهري إلى المقعد وإلا كنت مع جنيني فوق الأرض:

(صدر صديقتي يحتفظ لي بنصيبي من المجون طازجاً. أرقد بين فخذين مثقفين فأنال الحجة والتوبة. يلتئمُ جُرحُ الوطن وتثوب الأيام إلى رشدها. أبتلع مع الرضاب مرارة الاغتراب. أين أعثر عليكِ أيتها الميتة المحايدة؟ كطلقة أو دانة عمياء عُبِّئَت داخل ماسورة الإطلاق، لا يهمها إذا ما كانت وجهتها تدمير بناية أو دار عبادة أو فرج عاهرة تديرُ بيتاً مشبوهاً. ميتة محايدة جاهلة. لا تزال امرأتي –التي شاخت قبل مجيء أوانها- مريضة بداء الحلم، لا شيء يوقظها من غفلتها، وتُحيِّرُني كثيراً… خصوصاً هذه الأيام. لا أدري ماذا أفعل معها! أحسها تقرأ أفكاري دون أن أنطق وأداوم علي الهرب من أمامها. ألا أستطيع أن أختار حياتي كما يحلو لي؟ لم تعرف شيئاً عن طفولتي التي أخفيها كالعاهة الثقيلة. لم تَذُق أياماً بلا طعام وكلها إهانات من أبي ومن الفقر ومن نظرة الناس لمن لا يملك المال. أحتى حين أمتلكُ كل المال والمركز وأعلى الشهادات لا أكون حراً؟ لم تتذوق السكن في غرفة واحدة لأسرة بكاملها، لم تعرف أن يجيء العيد وتختبئ مثلي من الخروج بخِلَقٍ تملؤها الرقع كالبلياتشو. كان لها حجرة وأهلاً يعرفون كيف يحبون. كان لها سامح الذي لولاه لهربتُ من زمن. حتى الحمل لم أرِدَهُ ولم أجرؤ على البوح، لكنها لمحت حزني بخبر الحمل. لم تعرف ملابس الكساء الشعبي الذي حفظ خريطة جسدي، ولا الكتنلة الوحيدة من باتا. لم ترى شيئاً مما رأيته وشربته في حياتي. علي يدي عرَفَتَ الحبَ والزواج والحمل. ألستُ أستحق الشكر بدلاً من حصار عينيها التي بدأتُ أخشاها؟ لولاكَ يا سامح لتركتها، لكن للأسف الظروف تجبرنا أحياناً. وعلى كل حال وجودها لا يعيقني، فلم أعد قاصراً ولن أسمح لأحد أن يقهرني أو يفرض وصايته..كفاني قهر أبي وقهر الفقر وذله.)

تُصِرُّ الأيام على أن تترك ميسمها بداخلي! كل شيء يقبض جدران القلب ولا أدري إلى متى يجب أن أتحمل اختياراتي؟ هكذا ؟ أصبَحتُ لا تحبني؟ لا تطيق نظرات عتابي الصامتة؟ علامَ تعاقبني؟

أعيدُ كتابة الشعر الذي كتبه عني دون أن يخبرني حتى يكون إعترافاً بخط يدي على فشلي الذي أقرأه وأحسه ولا أصدقه، لكن شواهد الأيام الماضية تجبرني أن أُصدِّقُ وأن أقتنع:

كم غيَّرَت وجهك تجاعيد الألم والشوق

وغيَّرَت وجهي سنين العِنَا

وفتَّحِت في جروحنا آلاف الشقوق

لا عُدتِ انت… ولا أنا

ما فضلش غير شبح الصدى المخنوق

ما فضلش غير الحس طالع زهوق

ما باينش منه إن كان صريخ ولا غُنا

العدل والحرية؟

ضحكوا دلالين السوق

وشخللوا جرس المزاد القديم

تُحَف وأسرار، تماثيل ملوك

جوابات غرام وصكوك

سيوف عمايم، لبس مملوك

سراير

لسة العرق في فَرشَها ما نِشِفش[2]

أكتب إليه قبل أن أغادر بغير رجعة:

(تركتُكَ بإرادتي بعد أن تركتَنِي بتجاهلك وكذبك وبعد أن لم يعد يربط بيننا شيئاً سوى كلماتك القديمة المكتوبة والمسموعة، تنثر ذكرياتها حولي، تمسك روحي، تتملكها بقبضة مستعفية، تذري بحناني العاشق وتواجهني بالحقائق واحدة إثر أُخرى… تستدعي بكائي.

ندم من نوع خاص يدعو رأسي أن تخرج من أحلامها وأشواقها بك وبالناس والأشياء. تملؤني الثقة وأنا اهرب بلا عودة. ستلازمني ملامحك وحبك القديم للبوح وأنت راقد فوق صدري وكأني أمك أيام زواجنا الأولى. وقت كان جسدي يتفتت تحت أشواقك ويرفرف علَمِي حراً طليقاً فوق ساحتك خفَّاقاً في نفس الخفة التي تُقرِّبُ أبعاضي من أبعاضي كي تتعشق صورتي كاملة أمام نفسي فتملؤني الراحة. أغمض عيني أنصت بفرح غاب عني كثيراً لتلك النسمة الزائرة لوجهي وخصلات شعري المبللة. ألحظُ تسربلها وتجرؤها في اقترابها الحذر تبارك المشهد والتي كانت تلمحني أُقبِّلُ كتفيك العاريين بخفة قبل أن تنام مبتسماً، محلِّقاً في الأجواء البعيدة. يتأكد داخلي لحظتها بأنك تستحق أن أُلخِّص فيك الأهل والأصحاب.. وأكتفي. أنظر للسقف الذي يستأذنني في التباعد الهاديء وأحسُ بالفساحة وأنا أتمدد عارية كما يوصيني رب البيت. أسحب الملاءة بخفة أستر جسدي وأغفو تائهة بين أروقة جنتي وجنتك إلى أن تستيقظ فتزيح أستار ملاءتي عن كنزك، تلتهم ما فوق المائدة ومن داخل كنزك مرحاً طائراً ولا تخجل من البوح بقدراتي وجمالي واتساع عيني ولون شعري ونعومة جسدي ورقتي وطيب رائحتي واحمرار كعبي، بل كنت تُقبل أصابعي وتخبرني إننا دائماً سنعيش حباً طازجاً لا يشيخ، تحتضن كفي كلؤلؤة داخل قوقعة كفَّيك الدافئين.. وقتها كنت ألمح حروف اسمي مكتوبة في قائمة المحظوظين المدعوين إلى جنان السعادة.)

أترك الخطاب مع تزايد أوجاع ظهري ولا أكفُّ عن التساؤل: كيف يكذب عليّ وعلى نفسه؟ كيف مرَّت عليَّ كل هذه السنين ولم أكتشف كل هذه الأشياء؟ هل فلح خالي وشلة الجامعة في نكاح رأسي فأصبحتُ مثلهم أَدُورُ في ساقية التفصيلات؟ كيف ضاعت عهودٍ على الزواج والبقاء أحياء وسط بيئة عفنة؟ عهود بعدم الفراق أو الاستغناء. هل يفعل مثل ما يفعله التاريخ بالمعاهدات التي يسطرها بين ضلفات كتبه؟ هل هي مثلها؟ قيودٌ تنتقص من حقوق الطرف الأضعف؟ هل أخجل لو أُقرُّ الآن أني كنت طرفاً أضعف؟ أكمل له رسالتي الأخيرة:

(لم يتبق منك شيئاً أحزن لفقده بعد أن استأجرك المنصب وحب التملك والنقود وسيطروا عليك. بعد أن بات همك الشاغل تحقيق خرس الآخر.. أيّ آخر، كي لا ينكشف خواؤك وينتشر هواؤك الفاسد. يملؤني الرثاء عليك كلما لمحتُ ذبول قلبك وجفاف مشاعرك وكنت أرثي لنفسي أيضاً ولا أجد أمامي إلا أن أعجب من أحوال الناس والزمان. كنت أروح للقاءاتنا الورقية أعبثُ برزمة الذكريات، وأحس بشوق زائد يجرفني وكأنك وطني أبعدوه عني، أشتاق أن أضمك، يضمك صدري، جسدي كله الذي كان يصرخ فرحاً كمكتشف عثر على نتيجة مُرضية لتعبه سنيناً. تمنيتك وكأنك آخر الأشياء الجميلة، آخر الأحلام والأشواق ونبوءات المستقبل. وحين واجهتُكَ يوماً بفتورك، اعترفتَ في وجهي أن ما أحسه هي الأعراض الجانبية لمن يغرقون داخل مؤسسة الزواج الفاشلة. أغلقتُ نوافذ قلبي وقتها في ريبة وجلست أرقُبُه، أرى حركته المنتفضة.. تيقنت أنه حباً.

الآن اكتملت الصورة عندي. رأيتُك مع صديقك “الدكتور سامح” داخل نفس المجرة، مجرة الزمن الذي فسد هواءه. أتأكد أنكم في حواراتكم الطويلة -والتي لم تتغير- تريدون بها أن تعلوا فوق سوءات الأيام. رغم الإحساس بالمرارة والهشاشة، حزنتُ في صمت وأنا أستمعُ لفلسفتك عن طبائع الأشياء. بعدها لمحت نيتي في الفرح مقتولة يسيل دمها. فرحي بك إذاً مع عودة سامح كان فرحاً كاذباً موجعاً خائب. أسأل نفسي أين العطب؟ في عقلي أنا؟ في غبائي الذي احتكم طوال سنين؟ أم في الزمان؟ هل في عراكنا مع الوطن ومن أجله في عز الشباب، بأحلامه وتشوهاته وذله تفقد المشاعر والأحاسيس التي ما كانت تنطق إلا صدقاً؟هل في طحن الحياة لنا وطحن بعضنا لبعض فبدت الأشواق سرابية طلسمية ضعيفة واهنة؟ أين العطب؟

صعب ومهين إذاً أن أبقى في زمنٍ ولى، وصورٍ وخطاباتٍ بعد أن لمحتُ وعاءك خاوٍ. اختيار عبثي ومجنون أن أبقى. سأتركك قبل أن تتوقف مظاهر الحياة عندي مثلك في الحكي عن ذلك الذي كان وتلك التي كنا نمخرها بسفيننا وقت كان بالإمكان شيئاً. الآن تتفلون الموضوعات من فمٍ لفم كفصوص أفيون. وتظل الذاكرة كأثرٍ جُرحٍ قديمٍ غائر لا ينوي الالتئام.)

أغلقتُ الخطاب وتركته علي المكتب وأنا أتيقن أن جنيني قد مات بداخلي، فلا حركة له كما في السابق. وقفتُ متهالكة تدور بي الغرفة، ينثال التعب علي جسدي كله. تحاملتُ وأخذتُ نَفَسَاً عميقاً وتركتُ المفاتيح. مسحتُ دموع الجيوكندة قبل أن أُغلق الباب.

تـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمــــــــــــــــــــــــــــــــــت

نادية شكري

أبريل 2003

القاهرة

[1] من أشعار الأستاذ رفعت سلام.

[2] من شعر محمد سيف.

--

--

Nadia Shokry

كاتبة روائية وقاصة، نشرت ثلاث روايات ومجموعتين قصصيتين وهناك مجموعة قصصية ورواية تحت الطبع