صَوَّرَهَا المُقِرُّ بِذَنْبِهِ

مشـروع دار الكتب
6 min readFeb 25, 2015

--

في هذه الرحلة الشيِّقة ستصحبنا «كريستين أ. فيلبس» كبير فنِّيِّي التصوير؛ لتَلِجَ بنا إلى ما وراء الكواليس فيما يتعلق بخدمات التصوير التابعة للمكتبة البريطانية، والتي تذخر دائمًا بالعديد من المشاريع الرقْميَّة المستمرة

فيما قبل القرن الرابع عشر تحلَّى الفنانون البيزنطيون الذين رسموا الأيقونات بخلق التواضع وإنكار الذات؛ فتركوا أعمالهم خاليةً من التوقيع. وكان هذا نابعًا من قناعتهم بأن تلك الأعمال ستُوضَعُ في الكنائس لتُعَانِقَ عيون آلاف المؤمنين الذين سينظرون إليها تبجيلًا واحترامًا على مر القرون، وفي الأحيان التي وُقِّعَت فيها تلك الأعمال جعل الفنان توقيعَه إقرارًا بضعفه وتقصيره، فكتب: “رسمها المُقِرُّ بذنبه”، وهو ما سمح للقيمة المقدسة اللامحدودة للأيقونة أن تبقى مُحَرَّرَةً من الارتباط بذلك الوجود الإنساني القاصر

ودعونا نعبر حاجز الزمن لننتقل سريعًا إلى العصر الحديث الذي تُصَاغُ مفرداته في ثنايا السياق العلماني: فملايين الصور الرقمية يُطَّلَعُ عليها كلَّ يوم على مواقع المتاحف، والمكتبات، ودور المحفوظات، والمجموعات الأخرى، كلُّ هذه الصور الْتُقِطَتْ بعدسة مصور غير ظاهر في المشهد، وهي غير مُذَيَّلَةٍ بتوقيعه، الأمر الذي يُطْلِقُ للمشاهد العَنان ليفهم الصورة فهمًا نقيًّا غير مُكَبَّل بالقيود. ولكن هذا يثير في الأذهان تساؤلًا حول فنانِي العصر الحديث هؤلاء، الذين جعلوا تلك الأعمال التي لا تُقَدَّرُ بثمن؛ من روائعَ فنية، ودُرَر إيمانية، وتُحَف تاريخية، في متناول يد كلٍّ منا، كيف أَضْفَوْا بطريقتهم الفنية الخاصة لمساتهم المُمَيَّزة على ما نراه على شاشات حواسيبنا، وأجهزتنا اللوحية، وهواتفنا الذكية؟

وللإجابة على هذه التساؤلات سنخوض معًا غمار ذلك العالم الخفي فيما وراء خدمات التصوير في المكتبة البريطانية، والتي تذخر بصورة مستـمرة بالعــديد من مشاريع الرقمــنة. ومــن بيــن تـلك والذي يعمل على رقمنة (GMDP) المشروعات نخص بالذكر مشروع رقمنة المخطوطات اليونانية مخطوطات يونانية يعود تاريخها لعدة قرون، وهـي مخطــوطات تشــمل لوحــاتٍ مزخرفةً للإنجيليِّين في إبريل (GMDP) نَفَّذَها مجهولون. وقد بدأت المكتبة البريطانية المرحلةَ الثالثةَ من هذا المشروع 2014، ومن المقرر أن يُنْتَهَى منه في مارس 2015، مُسْتَهْدِفًا رقمنةَ أكثر من 300 مخطوطة، وهو ما يُعادل تقريبًا 120،000 صورة. وقد مَوَّلَ هذا المشروعَ كلٌّ من: مؤسسة ستافروس نياركوس، ومؤسسة أ. ج. ليفينتيس، وسام جوف، ومؤسسة سيلفيا لانو، وأمانة مؤسسة ثريبلو الخيرية، وجمعية أصدقاء المكتبة البريطانية، وآخرون

هذا ويعمل بخدمات التصوير بالمكتبة البريطانية حاليًا ثمانية موظفين يعملون دوامًا كاملًا، ما بين مُصَوِّر، أو كبير فنِّيِّي تصوير، وهم يمثلون مُجْتَمِعِينَ ما يقرب من 110 أعوام من الخبرة في مجال التصوير الفوتوغرافي في المكتبة. وعلى الرغم من أن اثنين فقط من هؤلاء المصَوِّرين قد كُلِّفَا بالعمل إلا أن المُصَوِّرين كافَّةً سيعملون على المشروع في مراحلَ مُعَيَّنة (GMDP) على مشروع

وتتنوع خلفيات المُصَوِّرين الثمانية؛ فمنهم ذوو خلفية أكثر ميلًا إلى التصوير التقليدي، ومنهم كذلك الفنانون، ومدرس سابق، ومُصَمِّم سابق للجرافيك ثلاثي الأبعاد متخصص في ألعاب الكمبيوتر، وعالِم آثار سابق

وفورَ تسليم كتابٍ ما إلى أستوديو التصوير، يمكن لعملية الرقمنة المادية أن تبدأ. وتُعْتَبَرُ كل مخطوطة حالةً فريدةً من نوعها، وقد تتنوَّع الحالة المادية للمخطوطات تنوعًا واسعًا؛ ولهذا السبب تُقَيَّمُ تقييمًا ترميميًّا كُلُّ مخطوطة ستُصَوَّرُ لأيٍّ من مشاريع الرقمنة، هذا التقرير المكتوب يُرْشِدُ المُصَوِّرَ المسئول عن الكتاب لضمان إعادة المخطوط على الحالة التي اسْتُلِمَ عليها

وفورَ قراءة تقرير التقيـيم وفَهمه، تُجَهَّزُ المخطـوطة للتصوير على حامل، ويمـكن تصـوير العـديد من من تصميم قسم الحفظ؛ وذلك للسماح بإجراء عملية L المخطوطات باستخدام حامل على شكل حرف التصوير دون إلحاق الضرر بالمواد. وبعد تجهيز المخطوطة بشكل مناسب، يمكن تصويرها بصيغة المزودة بجهاز دعم التصوير الرقمي Phase One صفحةً صفحةً، باستخدام كاميرات RAW digital back

مع إجراء تعديلات (Capture One) وفور التقاط الصور تُرَاجَعُ وتُحَرَّرُ بياناتها باستخدام برنامج طفيفة تشمل ضبط القص ، والتقويم ، والتعرض

قبل أن TIFF و JPEG وتُحَوَّلُ إلى ملفات بالصيغتين RAW وأخيرًا، تُعَالَجُ الملفات ذات الصيغة تُمَرَّرَ إلى مختلف فِرَق مشروع الرقمنة للنشر على الإنترنت

هل تبدو هذه العملية يسيرةً ومباشرةً؟ كلَّا، إنها نادرًا ما تكون كذلك؛ ففي كثير من الأحيان قد تحتاج المخطوطة لأن تُدْعَمَ بعناية حتى تصبح مستويةً، وقد تحتوي على صفحة غير مُسَطَّحة، وهو ما يعني أن المُصَوِّر سيكون مسئولًا عن معالجة المخطوطة بمنتهى العناية والحذر لجعل الصورة الناتجة تعكس أفضل مظهر للصفحة. وبالإضافة إلى ذلك، فقد يكون المُقْتَنَى محفوظًا في إطارٍ زجاجي لا يُسْمَحُ بإزالته من أجل التصوير. وقد يكون المُقْتَنَى كبيرَ الحجم بصورة يصعب معها التعامل معه، أو يكون صغيرًا للغاية. وقد يُحْتَاجُ إلى تغيير ظروف الإضاءة إذا كانت المخطوطة تحتوي على قدر كبير من الزخارف المُذَهَّبة. وبطبيعة الحال، دائمًا ما يحتاج الأمر إلى تعديل وضعية الكاميرا أو ضبط الإعدادات، فضلًا عن استخدام مجموعة متنوعة من العدسات. وفي جميع مراحل العملية يجب على المُصَوِّرِين استخدام حِسِّهم وخبرتهم “لعدم إلحاق أي ضرر بالمقتنيات”، والحصول على صُوَرٍ تعكس بصدقٍ المادةَ الأصلية. وبعد مراقبة كل ما يجب أن يُوضَعَ في الاعتبار لتصوير مخطوطة، يطرح هذا السؤالُ نفسَه: هل هؤلاء المهنيون فنَّانون أم فنِّيُّون؟ مُصَوِّرُو المكتبة أنفسُهم ينقسمون عندما يتعلق الأمر بالإجابة على هذا السؤال؛ فنصفهم يعتبرون ذلك النوع الخاص من التصوير الفوتوغرافي الذي يمارسونه شكلًا من أشكال الفن، بينما يراه الباقون شكلًا من أشكال التصوير العلمي

ومهما كان الجوابُ على هذا السؤال، يبقى الشيء الوحيد المُؤَكَّدُ أن هؤلاء المُصَوِّرين يُوَصِّلُون قدرًا مُهِمًّا ومُؤَثِّرًا من العمل للجماهير الرقمية، فقد طَوَّرَ الكثير من العلماء من مختلف أنحاء العالم أبحاثهم دون الحاجة لزيارة المكتبة البريطانية بأنفسهم، وأصبح باستطاعة الآلاف من الناس التواصل مع التراث العالمي الثقافي والديني بنقرة زر واحدة

ما هو إلا غَيْضٌ من فَيْضٍ، ضمنَ تَوَجُّهٍ أوسعَ مُشْتَرَك في GMDP وبطبيعة الحال، فإن مشروع المتاحف والمكتبات ودور المحفوظات لرقمنة مقتنياتها لنشرها على الإنترنت؛ ففي أوروبا وحدَها، وبحلول عام 2014، أصبح لدى 87٪ من مُؤَسَّـسات التراث الثقافي مجمـوعاتٌ رقمـية. وقد كـشف عام 2014 أن البحث العلمي هو أهم (ENUMERATE) “ الاستطلاع الذي أجراه مشروع ”تعداد الأسباب المُتَصَوَّرة وراء رقمنة المجموعات، الأمر الذي يُشِيرُ إلى اتساع ميدان رقمنة العلوم الإنسانية. ومع إتاحة كل هذا الكمِّ من الموادِّ الجديدة على شبكة الإنترنت، نستطيع القول إن ثمة ثورةً بصريةً تنادي بحرية المعرفة تحدث الآن. ولم يَعُد العالِمُ الآن مُقَيَّدًا بعدم القدرة على السفر بعيدًا إلى المكتبات والمتاحف لرؤية المقتنيات والاطلاع عليها، ولم يَعُد يحول بينه وبين إمكانية الوصول الفوري إلى المخطوطات، ومعاينة المقتنيات ثلاثية الأبعاد، سوى نقرة واحدة. هذا وقد أصبحت المِنَح الدراسية أكثرَ تنوعًا بفضل الوصول المفتوح إلى المقتنيات على الإنترنت الذي يسمح لأولئك الذين يرغبون في رؤية شيءٍ ما والاطلاع عليه أن يفعـلوا ذلك كلمـا أرادوا. وعلى الرغـم مـن أن المرحلة ما زالت في الواقع تخطو أولى خطواتها، إلا أنها أصبحت بالفعل محورَ GMDP الثالثة من مشروع اهتمام البحث العلمي، وأصبحت كذلك تُسْتَخْدَمُ وتُشَارَكُ في عددٍ من مدونات “العهد الجديد” والباباوات

وبطبيعة الحال، فما كان أيٌّ من هذا كله ليظهر إلى النور لولا العمل المهني الدءوب من المُصَوِّرِين الذين يعملون في مؤسسات كالمكتبة البريطانية. ولكن إذا سألت أحد المُصَوِّرِين العاملين بخدمات التصوير بالمكتبة البريطانية عن دوره في هذه العملية، فستتلقَّى ردًّا يفيضُ تواضعًا وإنكارًا للذات، لا يختلفُ كثيرًا عمَّا كنتَ تتوقعه من الفنانين الأصليين “المُقِرِّين بذنوبهم”

كريستين أ. فيلبس، كبير فنِّيِّي التصوير

تم إعادة نشر الترجمة بترخيص من المكتبة البريطانية، وتمت الترجمة بواسطة مشروع جمعية المكنز الإسلامي ودار الكتب المصرية للمخطوطات

لقراءة المقال الأصلي باللغة الإنجليزية

Translation republished with permission from the British Library. Translation by the Thesaurus Islamicus Foundation and Dar Al Kutub Manuscript Project.

The original English article can be read here.

http://britishlibrary.typepad.co.uk/collectioncare/2015/02/photographed-by-the-hand-of-a-sinner.html

--

--

مشـروع دار الكتب

نعمل جنبا إلى جنب مع دار الكتب المصرية فى حفظ ورعاية المخطوطات We work with the National Library of Egypt on collection care.