منسحقين القلب، لما قد وقع بالفعل

أمجد
4 min readAug 30, 2016

--

كره ساراماجو السيارات، ذكر أن ركوبه لسيارة ربما تكون التجربة الأقرب لركوب سفينة فضائية تحاول باستمرار أن تحميه من كل شيء، وبالتالي يبدو منطقياً أنه عندما اختار أن يتابع أحداث رحلة تنطلق من لشبونة إلى فيينا اختار فيلاً ليكون السفينة التي ستحمل الركّاب والتاريخ. إلا أن اختياره لحيوان الفيل كان له سبباً آخر، فالنصوص الأثرية تحكي عن فيل أهداه ملك البرتغال في 1551 لأمير النمسا بمناسبة اقتراب توليه العرش، ولهذا السبب، تحتّم على الفيل أن يقطع المسافة بين المدينتين وأن يتعرف على معضلات البشر بين ثنايا رحلته.

بفترة وجيزة بعد الشروع في كتابة هذه الرواية مرض ساراماجو وانتقل إلى المستشفى حيث أخبره الأطباء بأنه إذا ابتسم له الحظ سيعيش 18 شهر. انقطع ساراماجو وزوجته بيلار عن العالم ومكث في حزنه يبكي روايته التي ”لن يقدّر لها أبداً أن ترى نور المطابع“ (*)، لكن زوجته بيلار، أقوى وأكثر عمليةً منه، استمرت في دفع ساراماجو إلى اتمام هذا الكتاب وإلى مقاومة المرض، لا أعرف إن كانت هي أيضاً من دفعته للعب ”سوليتير“ للتصدي للزهيمر أم أنه اقتراح ساخر كتلك التلميحات التي يشوّش بها أفكار قراءه المساكين وهم يحاولون فهم الأحداث، والتي، على حد تعبيره، مجرد أن نبدأ في فهمها ، نجدها تسير مهرولة، ونجد أنفسنا نغوص في الوصف، منسحقين القلب، لما قد وقع بالفعل.

لم يسافر سولومون، الفيل، وحيداً، بل صاحبه فيّاله سوبهرو، ورافقهم أيضاً جنود لحماية الرمزية السياسية والدبلوماسية للحيوان. وعلى عكس السيارات، كان سولومون مزوداً بكل الأنظمة الحسية اللازمة لاستشعارآلام الرحلة التي لم يكن يتعين عليه أبداً أن يخوضها، لكنه، بصورة أو بأخرى، استطاع أن يتسلق جبال الألب، وأن يخوص البحار، حتى أنه، على الرغم من عدم إدراكه لأهمية الأمر، أدى الركوع أمام الكنيسة عندما كان لابد من أدائه. ربما هوّن على سولومون في رحلته الشاقة رفقة سوبهرو، وسعادة البسطاء الذين لم يروا أبداً كائناً مثله، والذين كانوا ينتظرونه في الشوارع والأزقة متخيلين مخلوقاً بمقدوره أن ينشر السلام ويحرر الحب.

في نهاية 2008، وبمعجزة شبيهة بمعجزة ركوع سولومون، أنهى ساراماجو رواية ”مسيرة الفيل“ والتي قال أنه كتبها ”في حالة من السعادة النقية، ربما تكون سعادة النجاة“. في حفل إطلاق الرواية أشار ساراماجو إلى هذه الفرصة السعيدة التي مكنته من إتمام الرواية والتي منحته وقتاً، ”لمتى؟ لا أعرف، ولن أعرف، نحن لا نعرف ابداً“. واسترجع في هذه اللحظة سؤالاً كان قد سُئله في مقابلة: ”الآن وقد فزت بنوبل، بالشهرة، بالمجد، هذا، وذاك، ماذا أيضاً تود الحصول عليه؟“ وعن هذا أجاب: ”الوقت… والحياة… “، الوقت ليستمر في عمله الذي يحب، والحياة ليحيى بجوار زوجته بيلار، التي آمن دائماً بأنه إن لم يكن قد قابلها، لكان مات أصغر بكثير.

دعني أوضح سبب كتابتي هذا المقال، وسبب وجود هذه الرواية، وسبب أن هذا الفيل، دوناً عن كل الحيوانات التي رُسمت في الكهوف وحفرت على الأواني المذهبة القديمة، قرر أديب نوبل أن يفرد له صفحات روايته وهو يصارع المرض. لكن عليّ الإشارة، قبل أن أكسر قلوبكم، إلى أن السطور القادمة تروي الفصل الأخير من الرواية. فبعد وصول سولومون فيينا واحتفاء الشعب به. تحديداً بعد عامين من الحادثة العجيبة التي طار فيها رضيع من يد أمه وهي تراقب الموكب البهيج يجوب المدينة باتجاه القصر، ليسقط أمام أقدام الفيل الذي بدلاً من أن يدهسه مال برأسه، والتقط الرضيع بزلومته، ورفعه إلى الأعلى كما لو كان علم النمسا الجديدة، ليخرج الإمبراطور من عربته في هذه اللحظة المقدسة كبرهان للشعب على اختيار القدر لزعيمهم الجديد. بعد عامين من هذه المعجزة، قُتل الفيل، تم سلخه، ثم كسرت رجليه الأماميتين، وتحولا إلى أواني توضع فيها الشماسي والعكاكيز. يقول ساراماجو أن لو لم يحدث ذلك -وهي واقعة تاريخية- كان من الممكن ألا يشرع أبداً في كتابة رواية عن هذا الفيل. لأن بداخل عملية القطع التي لم تكترث بالأقدام التي سارت آلاف الكيلومترات لتصل إلى فيينا كان يوجد مجازاً لعدم جدوى الحياة، وعن عدم مقدرتنا أن نصنع منها أكثر مما هي عليه. ”فكم هي نهاية حزينة… كم هي نهاية حزينة“.

وبعد عامين تقريباً من إطلاق الرواية، مات ساراماجو، الذي شعر أنه لم يكن يتعين عليه أبداً أن يكون كاتباً، وأنها كانت صدفة سعيدة أن عثر على الكتابة حتى وإن كان بعد عمرٍ طويل، وأنه لم يندم أبداً على حياته التي أقتربت من الـ 90 عاماً، بل أنه إذا عرض عليه أن يحياها مجدداً لوافق تماماً. لا ليستمتع بالرحلة، أو الاحترام، أو المكانة، لكن ليستمر في استنفاذ الوقت ”في صناعة السعادة التي هي له، والتي هي لنا“. وليستمر في بذل الحياة برفقة زوجته بيلار، والتي كان يجدر بي الإشارة منذ البداية إلى أنه كان دائماً يهدي رواياته لها، وأنه أهدى لها رواية ”مسيرة الفيل“ بكلمات:

إلى بيلار، التي لم تتركني للموت

سارماجو وبيلار، بداخل سيارة

(*) جملة مقتبسة من رواية ”يوميات عام سيء“ لكوتسي، كان قد أتم بها بطل الرواية قصة قصيرة بدأ في كتابتها ولم ينهيها، موضحاً كيف أن أي قصة بإمكانها أن تكون مقدمة لقصة أخرى لا ترى أبداً نور المطابع.

--

--