………وفي نهاية المطاف …….:

صديقي العزيز،

لطالما عانيت من الإفراط في كل شيء. لم أكن أعرف معنى التوازن أو الاعتدال. كنت أذهب إلى أقصى الحدود في كل أموري. لم أشعر بالسعادة، بل بالنشوة. لم أشعر بالحزن، بل بالكرب. حتى في لحظات الغضب، كنت أكسر كل شيء حولي وأصاب بالجنون. لم أستطع الحب بطريقة عادية؛ كان الحب لدي هو العشق والهوس. عندما أحببت، أسرفت في حبي وعطائي، بالغت في اهتمامي وأفرطت في ثقتي، منحت كل شيء بسخاء وأعطيت كل ما في حوزتي. وفي النهاية، وجدت نفسي أعود أدراجي خائبة، حاملا مثقلا. بشعور يفوق الوصف. عدت بروح فارغة إلا من الخذلان وقلب يئن وجعاً لا يطاق.

كنت مفرطا في حساسِيّتي، أقل شيء كان يؤذيني. كلمة عابرة قالها أحدهم مازحاً كانت تجرحني وتستقر في أعماق قلبي. نظرة قاسية كانت تقلقني وتعكر مزاجي فجأة. صوت مرتفع كان يجعلني أبكي كطفل صغير يبحث عن أمه. رسالة حروفها حادة أو مكالمة هاتفية باردة كانت تؤلمني. كنت مبالغا. في قلقي، تجوب في رأسي أفكار عدة ويرقص ألف سؤال دون أن يجد جوابًا يطمئنه. أفكر كل يوم بأحداث مرت وأحداث قادمة وأحداث لن تجيء أيضًا. أضخم الأمور وأجعل من المشاكل البسيطة أزمات أعيشها بحذافيرها ويصعب عليّ تجاوزها، كنت مرهقا بسبب الإفراط في الشعور والحب والعطاء، حتى إرهاقي كان مفرطًا للغاية. أشعر أن التعب يسري في كل أنحاء جسدي، وكل عضو يتكئ على الآخر من شدة تعبه.

لقد خسرت الكثير من الأشياء التي أحببتها بإفراط وتمسكت بها بإفراط. قلبي انشطر ولم أستطع ترميم أجزائه المتناثرة. مهلًا يا صديقي، دعني أمسح دموعي التي انهمرت بإفراط من كل حواسي. لا أدري من أين أبدأ!

نعم، يا صديقي، تغيرنا بعد أن تشبعت حياتنا بمرارة كافية لنصبح الأشخاص الذين نحن عليهم الآن. أصبحنا أشخاصًا بنصف شخص، لم يعد يثير انتباهنا شيء. لم تعد ملذات الدنيا التي تغري الكثير تغرينا. لم نعد نستطيع أن نتعرف على أنفسنا من جديد. أحيانًا نتساءل: هل ولدنا لنشقى أم أن الله أنصفنا بأن البلاء نعمة يهبها لعباده؟ نحن على دراية بأن هذه الحياة وأرضها لا تستحقان ردّة فعل تجاههما؛ لأننا في نهاية المطاف سنغادر تاركين فيها كل أسباب الحزن والشقاء. أرواحنا لم يعد يصلها إلا القليل من أنابيب البهجة، فكيف سنزرع بها الأمل؟ أفئدتنا لم تعد تنبض إلا لإثبات أننا أحياء فقط. جميع المشاعر بداخلنا من فرح ودهشة وتفاؤل وحب توفيت، ولم ينبُت في قبرها سوى الاستياء والغضب والحزن والفتور والوحدة والخوف والمعاناة والجنون والندم، والحنين والأمل في اللاشيء.

إننا مليئون بمشاعر اتُّهِمنا بها ونحن بريئون منها. نحن معقدون، دائماً نهرب من أنفسنا ومن حولنا. نحاول أن نكون غير ما قيل عنا، نحاول النجاة من الأفكار التي تقتلنا، ومن الخوف الذي زرعوه بداخلنا. نخاف من البقاء وحدنا، من أن تفلت أيدينا تلك اليد التي عهدناها جعبتنا الخفية. نخشى أن يتركنا كل من تصورناه سرمديًا، فنصبح هالكين متلعثمين لا نشبه شيئًا. نخشى أن نجد أنفسنا في الطريق المظلم الذي اختبأنا فيه دهورًا، أن لا تعود الكلمات ملجأنا وسكينتنا، أن تخوننا الطرقات وتخذلنا أيضًا. نخاف من أنفسنا حين نتخلى في عز تعلقنا. لم نخَف يومًا من ضعفنا؛ كان الخوف من تلك القوة الكامنة بداخلنا التي أجبرتنا الحياة على إخراجها.

نحن الآن عاطلون عن الفرح. الآن يحق لنا أن نغضب ونثور لأن حياتنا ليست كما اشتهينا ولم نرِدُها أن تكون هكذا. مشاعرنا مليئة باتهامات بريئون منها. نحن معقدون هاربون دوماً من أنفسنا ومن حولنا. نحاول أن نكون غير ما قيل عنا، نحاول النجاة من هذه الأفكار التي تقتلنا، من الخوف الذي زرعوه بداخلنا. نخاف من البقاء وحدنا، من أن تفلت أيدينا تلك اليد التي عهدناها جعبتنا الخفية. نخاف أن يتركنا كل من تصورناه سرمديًا، فنصبح هالكين متلعثمين لا يشبهنا شيء. نخاف أن لا نجد سوى الطريق المظلم الذي اختبأنا فيه دهورًا، أن لا تعود الكلمات ملجأنا وسكينتنا، أن تخوننا الطرقات وتخذلنا أيضًا. نخاف من أنفسنا حين تخلينا في عز تعلقنا.

إننا نعيش في عالم مليء بالمشاعر المتنوعة والمتناقضة، وكثيراً ما نتهم بمشاعر وأفكار لسنا مذنبين بها. نحن معقدون ومعذَّبون، نهرب دوماً من أنفسنا ومن الأشخاص المحيطين بنا. نحاول أن نكون أشخاصاً مختلفين عن الصورة التي رسمها لنا الآخرون، ونسعى جاهدين للنجاة من الأفكار السلبية التي تقتحم عقولنا وتقتل فينا الأمل. نحاول التخلص من الخوف الذي زرعوه في قلوبنا منذ نعومة أظفارنا.

الخوف يسيطر علينا عندما نفكر في البقاء وحدنا، عندما نفكر في فقدان اليد التي تعودنا أن تكون سنداً لنا في أصعب الأوقات. نخشى أن يتركنا الأشخاص الذين اعتقدنا أنهم سيكونون معنا إلى الأبد، فنجد أنفسنا هالكين، متلعثمين، ولا نشبه شيئاً مما كنا عليه. نخاف من أن نجد أنفسنا في طريق مظلم، طريق اختبأنا فيه لسنوات طويلة، نخشى أن نفقد ملجأنا وسكينتنا التي نجدها في الكلمات.

نخشى أن تخوننا الطرقات، أن تتحول إلى مسارات تخذلنا بدلاً من أن تكون داعماً لنا. نخاف من أنفسنا حين نجد أننا قد تخلفنا عن السير في الطريق الصحيح في لحظة كان يجب أن نكون فيها أقوى. لم يكن الخوف يوماً من ضعفنا، بل كان من القوة الكامنة بداخلنا، تلك القوة التي أجبرتنا الحياة على إظهارها والتعامل معها.

نحن نخشى أن تكون تلك القوة مصدر ألمنا، أن تجبرنا على مواجهة تحديات لم نكن نرغب في مواجهتها. نخشى أن نكتشف أن القوة التي نظنها نعمة قد تكون في بعض الأحيان نقمة، تقودنا إلى مواقف تضعنا على المحك وتجبرنا على اتخاذ قرارات صعبة.

نخاف من أن نفقد أنفسنا في خضم كل هذه المشاعر والأفكار، أن نجد أنفسنا في دوامة لا نستطيع الخروج منها. نخشى أن ننغمس في الظلام الذي حاولنا طوال حياتنا الهروب منه. نحن نحاول بكل جهدنا أن نتمسك بالأمل، أن نجد الضوء في نهاية النفق، أن نكون أقوى من مخاوفنا وأقوى من كل ما يحيط بنا.

نحتاج أحياناً إلى عزلة تتيح لنا الانهيار بعيداً عن معارك الحياة اليومية، والتخلي عن كل ما نحارب من أجله. نحتاج إلى الابتعاد عن العالم لنخلع قناع السعادة والتجرد من ملابس القوة. لقد تعبنا من الادعاء بأننا بخير بينما في داخلنا يهتف الألم بأن الأمور ليست على ما يرام. كل شيء يسير عكس ما نريد ونحلم به، وكل مخططاتنا تتلاشى. ندعي أن الوضع تحت السيطرة، لكن الحقيقة أن الخيبات هي المسيطرة. تراكمات الخذلان في أعماقنا تكاد تقتلنا. نشعر بضيق في قلوبنا وكأن أطناناً من الأحزان موضوعة على صدورنا. الأمر أسوأ بكثير، كأننا نعيش حياتنا وقد شيّعنا جثاميننا منذ مدة طويلة.

في كل لحظة من حياتنا ندرك أننا لم نقل الكلمة التي أردنا قولها. تغيب تلك اللحظة عنا، وتغور الكلمة التي كانت على أطراف ألسنتنا. الكلمة المؤجلة ترافقنا أياماً أو شهوراً، مطمئنة بأنها تسيطر على الأمور، حتى تتسبب لنا بالأذى، تتمدد إلى معدتنا وكافة أعضاء جسدنا، وعندما تحاول الخروج لا تجد منفذاً فتستقر في حناجرنا، وتخرج على هيئة تنهيدة موجعة تذكرنا بوجودها.

أصبحنا نمشي بحذر في كل طريق نسلكه، بعدما قضينا سنيناً نندفع وراء كل الأشياء التي نحبها، وعُدنا منها محملين بجراح لا تزال آثارها باقية فينا. صرنا ندرس مشاعرنا وخطواتنا ووجهتنا أيضاً. إذا وجدنا الأماكن لا تناسبنا، نغادرها حالاً حتى وإن كنا نحبها. وإذا وجدنا الأذية من صداقة أحدهم، نهجره دون أن تهمنا سنوات العشرة. تعلمنا كيف نقول "لا" ونهرب بقلوبنا من أي محاولة خذلان. لقد أعدنا ترتيب كل شيء في حياتنا ووضعنا أنفسنا في المقدمة.

ندرك الآن وباليقين أنه إذا أُغلقت في وجوهنا الأبواب، سنفتح باباً آخر. وإذا كفرنا بالحب بعد خذلانهم، فسيكون هناك من يقوي إيماننا من جديد. وإن كان ماضينا مؤلماً، سنزاحمه بحاضر جديد يفوقه حباً ومتعة حتى نطمسه. وإذا ضللنا الطريق، سنمضي قدماً إلى الأمام، ففي النهاية كل الطرق تؤدي إلى الحياة والحب. حياتنا بيد الله وحده، ولن تقف عند أحدهم.

وصلنا إلى مرحلة من الوعي العميق، وتوقفنا عن تضخيم أحد. سنعطي كل شخص حجمه الطبيعي، ولن يرى منا إلا ما نراه منه. لن نهتم إن هجرنا أحد أو حاول خذلاننا، لن تعود الكلمات المعسولة تجذبنا ولا البدايات المريحة تغرينا، لأننا صرنا على معرفة بتقلب الناس من حولنا وسنراهن على شخصيتنا فقط. نحن على يقين تام أنه لا قيمة لمن لا يوقر نفسه ومن لم يضع حداً لاستنزاف مشاعره.

ختاماً، أدرك وأصرح:

"كل عثرة تعيدنا إلى صوابنا نسميها يقظة"

فهنيئاً للكادحين الساعين في دروب الحياة، لا تأخذهم زلة اليأس بالتوقف، بل يمضون مشرقين رغم ضوضاء المسير، متأملين خيراً وضاحكين دوماً، متفائلين بالبشائر ومتمسكين بأحلامهم رغم مشقة وعناء الطريق.

"اللهم اشرح صدورنا ويسر أمورنا"

✍️:جلال الدين يوسف أحمد

مدونتي عام ٢٠٢٣ بعنوان : رحلتي إلى عالم الخذلان !

--

--

Dr.Abdirizak Yusuf Ahmed DrJalaaludiin
DrJalaal thoughts

Dr. Abdulrazaq Yusuf Ahmed is a Senior Managing Director with 15 Years of Extensive Experience in Healthcare Leadership, Researcher and Academic writer