العلم بين الازدهار والهجرة

--

يوفر تنقل البشر للمجتمعات ثروات من العلم والقدرات لم يسبق لها مثيل

لطالما كان تاريخ العلوم يتميز دائما بالتبادل بين الشعوب متخطيا حدود الدول وآفاق الثقافات. وإن الصفة البارزة لهذا العصر البازغ هي تعددية قطبية العالم بعد انهيار محاولات القوى العظمى في الهيمنة المطلقة، والتي أضعفها الانتشار الواسع لتكنولوجيا المعلومات. إن الانتشار الفوري للمعلومات عن طريق الشبكات الجديدة مثل الإنترنت والهواتف المحمولة وسلاسل الكتل المتعددة (بلوك تشين)، تضاهي تنقل البشر الغير مسبوق حول العالم.

فالتنقل الكثير للبشر والمعلومات صار شيئا معتادا للغاية بحيث أصبح من الخطورة الاستهانة بقدره. وتعتبر تدفقات التنقل البشري عبارة عن تيارات تحمل في طياتها كنوزًا لا يمكن تقدير القيمة الحقيقية لها مسبقا. هذه الكنوز تكمن في العلم والقدرات الإنسانية. والمجتمعات المستعدة لحصاد الفوائد الأعظم للعولمة، ستحظى بسهولة تبادل هذه القدرات.

ولتوضيح بعضًا من المشاكل الملموسة التي يساعد التنقل البشري على حلها، فسنبدأ بالولايات المتحدة: فوفقًا إلى تقديرات جيمي ميريسوتس، المدير التنفيذي لمؤسسة لومينا غير الربيحة، فإن البلاد تواجه حاليا نقصا في العمالة المؤهلة لشغل مليوني وظيفة شاغرة. وفي كتابه الصادر مؤخرا، أمريكا بحاجة إلى المواهب، يقترح انضمام وزارة التعليم إلى وزارة العمل لإنشاء وزارة المواهب، والتي يتمحور دورها حول تطوير قدرات العمالة الأمريكية وسد الثغرات عن طريق الهجرات المستهدفة.

ومع ذلك تنطوي على الهجرة فائدةً أكبر بكثير من مجرد شغل المناصب الموجودة. فهي تساهم بشكل أساسي في خلق الفرص الجديدة والهامة. فمن المؤكد أن المهاجرين قد بنوا أمريكا وشاركوا بشكل حاسم في تطوير الأساليب الإبداعية الجديدة في مجالات العلوم والثقافة والسياسة. وإلى جانب الهجرة، فإن تردد المسافرين أيضا له قيمة كبيرة. فهناك أعدادًا لا تحصى من الأفراد الذين لا يقيمون بشكل دائم في الولايات المتحدة، وإنما يستفيدون من الزيارات المتكررة لتنمية مشاريعهم وترسيخ علاقاتهم العملية والشخصية في البلاد. ولهذا، فإن الانفتاح على العالم يعود بالفائدة على المجتمعات والأشخاص الذين يرغبون في الحصول على الموروثات العالمية للمعرفة العملية والنظرية والتي تعد ملكٌ لجميع البشر.

بالانتقال من أمريكا إلى الشرق الأوسط، لا نملك إلا أن ننتبه للعناوين الرئيسية التي تشير إلى تنقل البشر المستمر في المنطقة لأسباب متنوعة، من الرغبة في حياة كريمة إلى الهرب من الكوارث الإنسانية. فالدول الغنية تستقطب الكثير من العمالة من جميع أنحاء العالم، وإن تقريبا جميع بلاد المنطقة في موقف يستوجب عليهم استقبال اللاجئين الفارين من الظروف التي يتعذر وصفها. وما يربط كل هذه الأمثلة السابقة عن تنقل البشر ببعضها، هو آمال الناس بوجود محيط اجتماعي يمكنهم فيه استخدام مهاراتهم لإفادة أنفسهم والآخرين.

على الجانب الآخر، فإن عددا من الحكومات في المنطقة تقوم باستثمار ليس فقط في بناء بلدانهم الخاصة، بل في بناء حضارة بصورة أعم. وأكد على ذلك الملحن الإما راتي الأمريكي محمد فيروز في مقالته في مجلة فورين بوليسي عندما وصف “النهضة الجديدة في الشرق الأوسط” والتي تسعى فيها الدول إلى بناء الحضارة على أساس التبادل الثقافي والدبلوماسي. فقد عرض بعض الأمثلة البارزة، بما فيها دار الأوبرا السلطانية بمسقط ؛ والمكتبة الجديدة لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ؛ ومهرجان أبو ظبي؛ و دبي أوبرا. ونقل فيروز عن معالي الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية الراحل لمملكة العربية السعودية، قوله إن “الحضارات ليست سلعا متنافسة في السوق بل نتاج الجهد الجماعي للعبقرية البشرية بمساهمات متراكمة من ثقافات متعددة.” هذه الرؤية لقيت صدى عميقا في التقييم التاريخي السائد للظروف التي أدت إلى قيام النهضة الأوروبية، والتي اكتسبت الكثير من العلم المنقول من العباسيين والخلفاء الفاطميين وكذلك الأندلس لكي تصنع مناهج واستباقات جديدة في العلوم والفنون.

وهذا المزيج بين الحقائق على أرض الواقع والتطلعات للمستقبل، يشكل قوة دافعة لنا لأن نأخذ على محمل الجد أهمية الاستفادة من المهارات التي تجول بيننا. لا أقول ذلك كشعارا فارغا وإنما من منطلق التعجب لأن الكثير من قدراتنا الإنسانية تضيع في أمواج العنف — مثل الحروب والعقوبات الاقتصادية — وكذلك في مواجهة الحواجز والعراقيل المؤسسية والبيروقراطية.

تخطي الحواجز لتيسير انتقال العلم

وقد نشأت أيضا على ضوء هذه الخلفية مبادرات عديدة تهدف إلى تحسين الوضع للمتعلمين والمؤهلين. ومن بينها مبادرات تسعى إلى معالجة قضيتين أساسيتين:

١) زيادة التركيز على المهارات الشخصية لتوسيع مفهوم ما يعنيه أن تكون “مؤهلًا” فوق نطاق الشهادات الجامعية. وتبعا لذلك وضع مقاييس موحدة لتعريف المهارات من أجل التعامل على أساس تعريفات مشتركة. وبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فقد اضطلعت بهذه المهمة مؤسسة لومينا بالتعاون مع جهات أخرى بشكل وثيق.

٢) إعطاء المتعلم ملكية السجل الدائم لإنجازاته الشخصية في العلم والأعمال وما بعدها

إن هذه هي القضية الثانية التي جذبت انتباهنا في شركة ليرنينج ماشين. حيث لاحظنا أن عملية طلب إثبات سجلات الطالب أو الشهادات ليست مكلفة فحسب، بل وإنها تسري على نحوٍ بطيء. وهذا لأن السجلات الرسمية لا تعود ملكيتها للمتعلم ولكن للمؤسسة التعليمية. وهذا لا يشكل عقبة أمام الطلاب وحدهم، بل أيضا أصحاب العمل المحتملين الذين لا يملكون الوقت ليثبتوا صحة الادعاءات الواردة بكل سيرة ذاتية. وبالنسبة للمؤسسة التعليمية نفسها، فلا شك أن إرسال وإثبات السجلات تستنفذ الكثير من الوقت والعمل. وعلاوةً على ذلك، ففي حال زوال المؤسسة أو إغلاق أبوابها، فإن سجلاتها والطريق نحو التحقق منها سيزول معها بطبيعة الحال. وإن أضفنا إلى ذلك عبور الحدود الجغرافية، ستتضاعف صعوبة التحقق من صحة كل المؤهلات المزعومة.

و بناءً على جميع هذه الأسباب، فقد انتهزنا الفرصة التي تتيحها البلوك تشين لأن نضع ملكية السجل الرسمي بين يدي المتعلم. ومعنى ذلك أن المتعلم يحمل معه محفظة رقمية، في صورة تطبيق على هاتفه، تحتوي على قائمة المنظمات التي أصدرت إليه شهادات الإنجاز. وإنه من السهل أن يشارك أي سجل بمجرد النقر على أيقونة الجهة المصدرة، ومن ثم على اسم الشهادة، وأخيرا على القناة التي يرغب من خلالها بمشاركة الشهادة.

صور توضيحية للمحفظة الرقمية المحمولة التى تقوم بتخزين سجلات الإنجاز من مختلف الجهات المصدرة

وبالإضافة إلى بساطة عملية امتلاك ومشاركة الشهادات، فإن المحفظة نفسها متاحة مجانا لكل متعلم. وبالنسبة لجهة الإصدار، فهي تستطيع أن تصدر الشهادات والسجلات وأوراق الاعتماد الأخرى بكل سهولة عن طريق برنامج المؤسسات. ويعرض التطبيق أيضا جميع الأنشطة المتعلقة بالمستندات الصادرة عبر المنصات المتعددة في الوقت الفعلي، مما يعطي جهة الإصدار لمحة عامة عن كيفية استخدام ومشاركة خريجيها لعلامتهم التجارية حول العالم.

يساهم هذا النظام البيئي البرمجي في سرعة التعرف على المؤهلات المثبتة مما يسمح بسلاسة التبادل العالمي للمعرفة والمهارات. بحيث لم يعد من الضروري لصاحب العمل المحتمل أن يخمن ما هي المهارات التي يتمتع بها مقدم الطلب بالفعل، ولم يعد ضروريًا أيضًا للجامعات أو للمؤسسات الصغيرة الأخرى أن ترسل سجلات رسمية بتكلفة من الوقت والمال والعمالة. وتستفيد أيضا المنظمة المصدرة من الشفافية حول كيفية استخدام اعتماداتها حول العالم، ويمكن أن تستفيد من هذه البيانات لتعزيز العلاقات مع الخريجين بمرور الوقت. وطبعا بالنسبة للمتعلم، فقد اتسع أمامه العالم، حتى وإن اختفت المؤسسة التي قد تعلم فيها.

في ليرنينج ماشين، نحن نعتقد اعتقادا جازما أن البلوك تشين تكوّن بنية تحتية اجتماعية جديدة. وقد أبدى عدد ملحوظ من الحكومات والشركات والمنظمات التعليمية اهتماما بتسجيل مجال واسع من المعاملات بهذا الدفتر الرقمي. ولهذا السبب، وبالتعاون مع مختبر وسائل الإعلام بمعهد التكنولوجيا في ماساشوسيتس، للتكنولوجيا، فقد قمنا بتطوير المعيار مفتوح المصدر لتزويد أي فرد أو منظمة بالأدوات اللازمة لإنشاء تطبيقات خاصة بهم لإصدار أي بيانات اعتماد والتحقق منها على البلوك بشين الخاص بعملة البيتكوين، بحيث ستكون كافة الخصائص متاحةً للعموم، مجانًا. ولتلك المنظمات التي تفضل شراء الحلول التجارية المعتمدة، فالمنتج “ليرنينج ماشين للشهادات” هو متاح بالشكل المعروض أعلاه.

لقد آن الأوان لأن نأخذ على محمل الجد الاهتمام بالعلم والمهارات المتواجدة بيننا بالفعل، ولاتخاذ خطوات ملموسة لخلق الظروف الأكثر مناسبة لاحتضان العلم والقدرات التي في طريقها للقدوم. وإننا في ليرنينج ماشين نستعد لهذا المستقبل.

--

--