حياة وآلام مجانين الدفاع المدني في حلب

Matthieu Aikins
Matter
Published in
29 min readApr 1, 2015

ترجمها عن الانكليزية طارق أبي سمرا

في غرفة المرْكَز الضيِّقة، طلع الفجر عليهم منطرحين كجثث على حُصُرٍ متسخة، وعلى سرير معدني يميل بثقلٍ الى أحد جوانبه. أجسادهم متلاصقة، بعضهم لايزال في ثيابه منذ ليلة البارحة. إنه يوم من أيام حلب المعتادة، ولن يلبثوا أن يستيقظوا على هدير المروحيات والطائرات المغيرة لتلقي براميلها المتفجرة وقنابلها على هذا القسم من المدينة الخاضع لسيطرة الثوار، والذي سعى النظام إلى أن يحيله غباراً. غير أن هذا الصباح كان هادئاً، فواصلوا نومهم.

كان خالد حجّو، قائد فريق الدفاع المدني في حي هنانو، واقفاً خارج مكتبه المجاور للغرفة. أخذ مجّة من أولى سجائره الجيتان التي يستهلك منها الكثير يومياً، ثم راح يستطلع إقليمه الصغير. يقع المرْكَز- وهو منزل من باطون من طبقة واحدة — في إحدى زوايا رقعة أرض إسمنتية بحجم ملعب كرة قدم، يحوطها جدار من حجر علُوُّه ثلاثة أمتار ونصف المتر. في الطرف المقابل، هنالك كومة إطارات قديمة وونش معطَّل. رقعة الأرض هذه كانت سابقاً موقفاً للسيارات المحجوزة، فاستعملت لدواعي الحرب، كحال الكثير من المواقع والمباني في حلب.

بالرغم من موقعه في حيّ هنانو القريب من خطّ التماس، والمعرَّض للقصف الجوي ونيران المدفعية، لم يكن المركز متين البناء. فقذيفة هاون بإمكانها اختراق سقفه على الأرجح، فما بالك بقذائف الهاوتزر التي تسقط أحياناً في باحته. مع ذلك فإن للمركز مزاياه. فهو يقع على هضبة، وتحوطه قلّة من المباني المنخفضة، ما يسمح لأعضاء الدفاع المدني برؤية الغبار المتصاعد وأعمدة الدخان، فيباشرون فوراً عمليات الإنقاذ. منذ تأسيس الفريق، قبل أكثر من سنة، اتخذ أعضاؤه هذا المبنى مقرا لهم، ومكثوا فيه طوال شتاء المجازر الطويل وأصعب المحن، حينما أضطر السكان الى الفرار من المدينة هلعين، فصارت قنابل بشار الأسد تسقط الآن، بالوتيرة نفسها، على المباني الخالية والمسكونة.

Civil Defense volunteers, asleep in a pile, during a rare pause in duty.

شاحنة صغيرة حمراء مركونة في الخارج، على بابها الجانبي عبارة FREIWFEUERWEHR» « أي «رجال الإطفاء المتطوعون». تحتها، بالعربية والأسود: «الدفاع المدني- حلب». على هذه الشاحنة المتينة التي تبرع بها الغرب، بدأت تظهر علامات استخدامها لأشهر عدة في منطقة حرب: ثقوب الرصاص منتشرة على أبوابها وزجاجها الأمامي المتفسّخ. لكنها لا تزال تقوم بالمهمة المطلوبة، مسرعة بالمسعفين إلى موقع الانفجار.

أعضاء الدفاع المدني هم من عمّال الإغاثة القلائل الذين عايشوا الصدمات التي توالت على حلب، فمكثوا فيها للعناية بالمدنيين العالقين على خطوط القتال الأمامية. أجلوا الجرحى والجثث وكافحوا الحرائق، لكن ما عُرفوا به وأذاع صيتهم في سوريا والخارج، هو انتشال الأحياء من تحت الأنقاض في عمليات إنقاذ دراماتيكية.

The team’s rusty but reliable rescue vehicle.

لدى سماعهم دوي انفجار، يتكدسون في مقصورة الشاحنة الأمامية: عشرة رجال أو أكثر على مقعدين طويلين فقط، ينطلقون بحثا عن الموقع المتضرر. كعملات معدنية في علبة تنك، تخضُّهم الشاحنة صعوداً وهبوطاً، كلما مرَّت فوق حفرة، فيما يعلو صوت صفارة الإنذار قديمة الطراز، فيصمُّ الآذان. يلمحون أحيانا سيارة إسعاف، فيلحقونها، لكنهم غالباً ما يكونون أول الواصلين إلى موقع الانفجار. أثناء سير شاحنتهم المسرع، يخرجون أجسادهم من نافذتيها، ويسألون المشاة عن مكان سقوط القذيفة. من ردات فعل الناس يعلمون مدى اقترابهم من المكان. أثناء تقدم الشاحنة — فيما العابرون يشيرون بأيديهم إلى مكان ما، أو يهزّون أكتافهم كناية عن جهلهم مكان الانفجار — يصير المحتشدون، أخيرا، أكثر هيجاناً، إلى أن يلمح المسعفون في عيونهم وحشية الموت ورعبه ، أو هلعهم على جارٍ حوصر تحت الأنقاض.

عمليات الإنقاذ شديدة الخطورة، بسبب تكتيك الضربات المزدوجة التي يستخدمها النظام، معيدا قصف الموقع نفسه مرة ثانية، لإصابة عمال الإغاثة والحشود التي تكون قد تجمعت. هكذا قتل ثلاثة من فريق هنانو في شهر مارس/ آذار 2014، إضافة إلى مصور كندي من أصل مصري أتى لتوثيق عملهم.

A Civil Defense member calls out to onlookers en route to a bomb site.

قذف خالد سيجارته في الباحة التي كانت موقفا للسيارات. عمره ثلاثون عاماً. بشعره الأشعث وأنفه المستقيم وحنكه البارز الذي يخفف من حدته امتلاء خديه وشفتيه، يبدو كطالب دراسات عليا أكثر منه شخصا أمضى السنة الأخيرة من حياته منغمساً في الدماء وغبار الأنقاض. كان حتى وقت قريب، يسرّح شعره على شكل ذيل الحصان في مدينة سيطرت عليها تدريجاً مجموعات إسلامية مناهضة للغرب. بدأ كرشه يبرز جراء الليالي الكثيرة التي يمضيها جالساً، متناولاً الفاكهة والمكسرات، مصغياً إلى أصوات القصف، ومنتظراً نداء إستغاثة. تظهر تجاعيد حول عينيه عندما يبتسم، لكنه غالباً ما يبقى هادئاً جامداً، محافظاً على رباطة جأش لا تتزعزع حتى في وجه الموت. هذا ما يبرر احترام أعضاء فريقه الجامحين وطاعتهم إياه: «عليك الحذر من الشخص الهادئ «، ردد سُرْخاي (Surkhai)، مهرج المجموعة.

داخل كوخ متهالك يستخدمونه كحمام على مقربة من المركز، غسل خالد وجهه، ثم عاد إلى مكتبه المجهز بكرسيين وطاولة تكسوها الخدوش ورف صُفّت عليه ملفات المركز. وعلى الحائط عُلِّقت شهادة تقدير من مجلس المدينة، وتدلَّت من السقف لمبتان عاريتان.

Khaled Hajjo, the leader of the Civil Defense team in Hanano, reflects after a grueling day.

سمع خالد أصوات حركة أعضاء الفريق الذين كان حاضراً منهم في ذلك اليوم بعض من المخضرمين الأكثر جدارة بالثقة. هم على كل حال مجرد أولاد. أكبرهم سنا سُرْخاي و(Shahoud) سعود(؟): توأمان ضخمان في الثامنة والعشرين، يغطى الشعر الكثيف جسميهما، عدا قمَّة الرأس. الباقون معظمهم في العشرين عشرون أو في الحادية والعشرين. أما علي، النحيل بتسريحة شعره القصير في مقدم الرأس، الطويل في مؤخرته، ففي التاسعة عشرة. وحده أحمد — الغلام الذي يطوّح به طوله الفائض، وذو اللحية الصغيرة في مقدم ذقنه- يملك خبرة في أعمال الإغاثة ما قبل الحرب، حينما عمل إطفائيا مثل والده.

عددهم الإجمالي ثلاثون. 12 منهم تقريبا يتواجدون عادة، في الوقت عينه، في المركز. فهم يتناوبون على العمل، إلا قائدهم الذي لم يتغيّب يوما قط. أحب خالد الفريق، وأحب التقارب الجسدي والعاطفي بينه وبين أعضائه، فصار هؤلاء الرجال حياته كلها. شخصيته القديمة، عندما كان طالبا في كلية الحقوق ويعلِّم في مدرسة مهنية، تبدو بعيدة بُعْدَ منزل عائلته خلف خطوط النظام.

Team members relax in their command center — formerly a car impound.

امتَدَّ سكون الصباح الى ما بعد الظهر. لم يصدق خالد الهدوء المخيِّم عميقاً على كل شيء. إنه لأمر مريب، فقد مرّ يومان على آخر مذبحة كبيرة، عندما سقط برميل متفجر في سوق خضرٍ وقتل العشرات. لعلَّ النظام كعامة الشعب في حال ذهول بعد سقوط الموصل في أيدي المجموعة المنشقة عن «القاعدة» والمعروفة ب»داعش»، يتكهن رجال المركز. كانت حرارة الصيف تشتد في حلب، فقرر خالد عدم حثِّهم على القيام بالتمارين أو أعمال التنظيف. أحمد راح يلعب مع القطة الجرباء، لولو، التي تتسكع عادة حول المركز، بينما انضم علي وسُرْخاي إلى لعبة ورق بليدة كانت تجري في غرفة النوم.

في الأثناء سحب خالد أَنَس جانباً، وجلسا على مقعد. كان خالد يُعِدُّه لدور قيادي، فراحا يتكلمان عن الفريق وعمن يحسن القيام بعمله ومن يبدو أنه بحاجة إلى فترة راحة. لأَنَس، بقامته الممشوقة ورموشه الطويلة وفكِّه المرسوم بدقة، هيئة نجم معبود من المراهقين. عمره 21 عاماً، لكنه يبدو أصغر بكثير. يحمل مسدساً مشكوكاً في حزامه خلف الظهر. يحاول الآخرون إغاظته أحياناً لكونه جميل جداً، فيتقبل الأمر بروح دعابة، قائلاً إن الرجال أخذوا يتحرشون به بعدما اختفت النساء من الأمكنة العامة في هذه المدينة التي دمرتها الحرب: «كنت في السوق منذ بضعة أيام — يخبر رفاقه ممازحاً- فلمحني جهادي ملتحٍ واقترب مني». قبل أن يتابع غيّر أنس لهجته، مقلّدا لهجة الجهادي:

-يا شيخ، يا شيخ!

-شو؟

-التدخين حرام!

يسحب أَنَس سيجارة ونستون قائلاً:

- بَعْرِفْ.

يُّذبِّل عينيه متظاهراً بأنه ينظر إلى شخص وهمي، من رأسه إلى أخمص قدميه:

- يا شيخ، يا شيخ!

- شو؟

- تعطيني الفايسبوك تاعك؟

انفجر الفريق بالضحك.

يستمتعون بهدوء ما قبل العاصفة، فَكَّرَ خالد. الجميع في سوريا، سواهم، متعطِّش للعمل. لكن خالد يعلم أيضاً كيف سيصيبهم السأم والتململ إن ظلوا على هذه الحال، بلا حركة أو نشاط. فسوى المخاطر المشتركة التي يواجهونها، لا شيء يجمع بينهم. لديهم أنشودتهم التي يرددونها، فيما هم يهرعون مسرعين إلى موقع الانفجار:

«يا منيك يلي تحت الأرض/ جايين نشيلك. يا منيك يلي بقلب النار/ جايين نطفّيك».

Khaled and his team mount up and respond to a call.

مساءً، فيما الضوء ينوس وتنتشر الظلال، سمع أعضاء الفريق صوت هدير منخفض وبعيد. لقد عادت مروحيات النظام. كصيادين أمضوا أوقاتاً طويلة متربصين في الغابة، يميزون الأصوات في المدينة. يقول أحمد أحياناً من غرفة النوم: «هذه قذيفة مدفعية»، أو «هذه طائرة نفاثة». في أحيان أخرى يقول: «الآن سيطلقون النار من الدوشكا»، فيسمعون إذ ذاك- كأنما أحمد كبس زراً ما- صوتَ تحطم طائرة ميغ على الجبهات الأمامية. قد تحلق هليكوبتر فوقهم تماماً، فلا يتأثرون. من صوت مراوِحِها يدركون أنها منحنية. هي إذاً في طريقها إلى مكان بعيد. الهليكوبتر التي تستعد لإطلاق البراميل المتفجرة، على خلاف ذلك، تحوّم فوق المكان ويكون صوتها أشبه بهدير محركات الطائرات النفاثة العميق.

بدت المروحية التي سمعوا هديرها الخافت كبقعة صغيرة شاحبة في السماء. بينما كانوا واقفين في الخارج لمشاهدتها، انفصلت عنها نقطة راحت تسقط بطيئاً بطيئاً. دويّ بعيد أعلن عن اصطدام تلك النقطة بالأرض. لقد أَسقَطت الطائرة — وهي مروحية نقل روسية من طراز هايند — برميلاً متفجراً، ذاك السلاح المرتجل، الفتاك، المفضل لدى النظام.

What once was a car — and, inside, its passengers.

هذه القنبلة هي برميل للوقود فارغ، أو خزّان فارغ للغاز. يُحشى البرميل أو الخزان بحوالي 900 أو 1000 كلغ من قطع الخردة الفولاذية أو الحديد المسلح، يُداخلها فتيل بدائي الصنع. تتحول القنبلة هذه شظايا ملتهبة لدى انفجارها. هي بحجم قنبلة تقليدية، وباستطاعتها هدم واحدة من العمارات الإسمنتية الرديئة البناء التي تشكل الجزء الأكبر من المشهد العمراني في حلب. ليس بمقدور القوات السورية تصويبها بدقة. هذا أمرٌ بلا أهمية في واقع الحال. فالهدف من إلقاء هذه البراميل أو الخزانات المتفجرة، هو إرهاب السكان وجعل المدينة غير قابلة للعيش.

انتظر أعضاء الفريق سقوط القنبلة الثانية (تحمل الهليكوبتر قنبلتين عادة)، ثم صعدوا الى متن الشاحنة التي توجهت مقرقعة إلى مكان الانفجار. سائقها، أبو ثابت، رجل كبير في السن حزين الوجه يملك سيارة أجرة. كان يقود شاحنات ثقيلة قبل الحرب. لديه قدرة تحكم عالية بشاحنة الدفاع المدني الصغيرة، فيعرِّج بها برشاقة بين الركام. أبنية الحي، حيث سقطت القنبلة، قليلة ومتباعدة، وقال بعض الرجال الحاضرين على مقربة إن أحداً لم يصب. نزل خالد للتأكد، فتبعه أعضاء الفريق. تخطوا أحجار باطون متناثرة، وتقدموا بين البيوت الصغيرة المهدمة. كان الهواء لا يزال مثقلاً بغبار الأحجار المسحوقة، كسحابة ذهبية في الغسق. «في حدا هون»، صرخ رجال الدفاع المدني بين الأنقاض، فلم يتلقوا أي جواب. «خلينا نفل يا شباب، يمكن ترجع الهليكوبتر»، قال خالد مُلَوِّحاً باللاسلكي.

بعد عودتهم إلى المركز، وقفوا خارجاً يمزحون، فهذه العملية الوجيزة أيقظتهم من سبات دام طوال النهار. فجأة صرخ أبو ثابت، مشيراً إلى الأعلى: «طائرة!»، فقفزوا جميعاً متطلعين إلى السماء. لم تكن سوى نجمة، فالنجوم قد بدأت تنتشر في سماء الليل البنفسجية.

- هي لا تُحَلِّق، وأضواؤها مشتعلة، سخِر أَنَس.

- ربما نسي الطيار فرام اليد، قال سُرْخاي ممازحاً.

استقلَّ أبو ثابت سيارته، خجِلاً اتجه إلى منزله. زوجته وأولاده لا يزالون في المدينة. انصرف باقي أعضاء الفريق إلى روتينهم المسائي. تمددوا في أرجاء غرفة النوم التي تحتوي، إضافة إلى السرير والحُصَر، مروحة وموقد غاز وجهاز تلفزيون صغيراً، من على شاشته يتلقون نشرات أخبار الثوار والنظام. أحضر أحدهم من السوق خوخاً أحمر شهياً. لم يكن نصف المدينة الخاضع لسيطرة الثوار قد حوصر حصارا كاملا بعدُ (كانت قوات النظام وتنظيم «داعش» تضيّق عليه تدريجاً من كلا الجانبين). لكن موادا غذائية كانت لا تزال متوافرة في الأسواق القليلة التي بقيت مفتوحة. امتصُّوا حموضة نواة الخوخ وفتحوا علبة فستق. مرَّت ساعة. حدث دوي ووميض هائلين.

التعرض لانفجار قريب، هو اختبار الضوء والصوت كصمت في الظلام. صمتٌ، إذ يعلو طنين اذنيكَ فوق كل صوت. وظلام، إذ يطوقُكَ كلياً الغبارُ والدخان. امتلأ الفضاء بقطع أحجار باطون متطايرة، وقُذِف شباب الدفاع المدني إلى الأمام، فارتطمت أيديهم بالأرض التي صارت حقلا من الركام. نهض خالد واتجه مسرعاً، في الظلام الدامس، مع باقي الفريق، نحو موقف السيارات. لقد انهار نصف المركز، انقطعت الكهرباء، وأصيب عمر مع شاب آخر. المجموعة التي يرأسها خالد، رمت المصابين على أحد المقاعد الأمامية للشاحنة، وانطلقوا مسرعين. الباقون اجتازوا الشارع ركضاً، جلسوا القرفصاء في مساحة ضيقة بين منزلين. كان بإمكانهم سماع الطائرات تقترب من جديد، ورؤية رصاص أحمر خطاط يعلو لملاحقتها من مواقع الثوار. سُمِع دوي انفجار قريب آخر. فُتِحَ باب أحد المنزلين. هرع منه زوجان شابان مع طفل رضيع يحتضنه الرجل، واختفوا بسرعة في ظلمة الليل.

هدأ القصف بعد حوالى عشرين دقيقة فتجرأوا على التدخين مجدداً. خرج أَنَس وسُرْخاي. وقفا على جانب الطريق. هلال القمر الأصفر كان قد ارتفع فوق المركز. لم يرغب أحد بالعودة إلى الداخل تحسباً لعودة الطائرات. سُمعت جلبة سيارة إسعاف. ترجل سائقها وحدق بهم مذهولاً، وقال: «جئت بأسرع ما يمكن عندما رأيت الانفجار». كان بالإمكان رؤية بياض عينيه. «لقد نجَّاكم الله لكي تنقذوا الآخرين»، تابع قائلا.

عادت الشاحنة، فترجل منها خالد قائلاً: «عمر بخير. لقد جرحت قدمه فقط». وقف لحظة يتفقد الوجوه المتجهِّمة التي شكلت نصف دائرة من حوله. كانوا مضطربين بشدة؛ لكن أعضاء فريق هنانو لم يسبق لهم الفرار من موقع انفجار. خالد اتخذ قراره بسرعة: «سنبقى هذه الليلة لحراسة المركز وننتقل إلى مكان جديد في الصباح». أومأوا برؤوسهم، أشعلوا سجائر وراحوا يتمازحون لكسر التوتر.

- آمل أن ننتقل إلى مدرسة كبيرة ومريحة، قال أَنَس.

- إنهم يستهدفون المدارس دائماً، أجابه سُرْخاي.

جلسوا في صف واحد على حافة الرصيف، متكئين كتفاً الى كتف، مستمعين إلى أصوت القصف، فراحت جمرات سجائرهم تلمع واحدة تلو أخرى، حتى حلَّت الشمس محل القمر.

عند بزوغ الفجر رأوا كم سقطت القنبلة قريباً. كان البيت الكبير المجاور قد اختفى. حلت مكانه حفرة عملاقة مليئة بالحطام، وفي وسطها بضع صفائح فولاذية ملتوية من النوع الذي يستخدم لصناعة خزانات الغاز، وهي كل ما تبقّى من برميل متفجر أطاح، إضافة إلى المنزل، بعشرين متراً من جدار الحجر السميك الذي يحوط بالموقف وبقسم من مركز الدفاع المدني. لو سقط البرميل عشرة أمتار أقرب لكانوا الآن في عداد الموتى.

لا خيار لهم سوى الرحيل، فالمبنى على وشك الانهيار. تلقوا خسارتهم مركزاً بكوا فيه كثيرين من زملائهم، كصدمة معنوية. الأمكنة المهجورة كثيرة في حلب. باكراً في الصباح، كان خالد قد استطلع مدرسة في منطقة مجاورة. مبنى المدرسة صلب، من ثلاث طبقات إضافة إلى طبقة سفلية بإمكانهم اتخاذها مركزا وموقفا كبيرا للشاحنات. ستفي هذه المدرسة بالغرض. اتصل خالد بفريق دفاع مدني آخر (عددهم أربعة في حلب) لإحضار شاحنة ينقلون فيها لوازم المركز.

سمعوا وهم يحمِّلون المعدات في الشاحنة هدير مروحية مقتربة، فهربوا. كانوا لايزالون تحت تأثير رعب الليلة الماضية. بعد سَمَاع دويين متتاليين، خرجوا من مخبئهم ينفضون الغبار عن أجسامهم، متمازحين حول من كان منهم الأسرع في الفرار.

وصلهم نداء على اللاسلكي العتيق والرديء: لقد أصيب مدنيون. فَوَّضَ خالد ربيبه أَنَس قيادة شاحنة الإنقاذ، ثم قفز إلى داخلها مع مجموعة من شباب الدفاع المدني. انطلقت بهم الشاحنة مسرعة في اتجاه مصدر الدخان، بينما علا صوت صفارة الإنذار. أصاب الانفجار شارعاً رئيسياً في منطقة صاخور، على مقربة من حديقة عامة وتقاطع طرق يخترقه حاجز ترابي للوقاية من نيران القناصة. «توقفوا، توقفوا، توقفوا، توقفوا توقفوا»، صاح أَنَس لدى بلوغهم مسافة آمنة. قفزوا من الشاحنة وراحوا يركضون نحو موقع الانفجار. لقد أسقطت الهليكوبتر برميلين متفجرين ضخمين، فخلَّف الأول حفرة في الطريق. الثاني سقط على طرف الحديقة العامة، وأشعل شجرة نخيل كبيرة. سيارات عدَّة منتشرة في المنطقة صارت هياكل ملتوية. حشد من الثوار والمدنيين، إضافة إلى سيارات الإسعاف، كانوا قد تجمعوا.

Civil Defense members rescue a man who had been trapped inside his home after a barrel bomb collapsed it.

ركض عليّ نحو شيء ما، بالكاد يمكن أن تعرف ماذا يكون. كان رجلاً بديناً عاريا يغطيه غبار الباطون المطحون. قُطِع إلى نصفين عند الصرّة. أمعاؤه متدلية مبعثرة وراءه. إحدى ساقيه مطوية فوق كتفه. ملقىً على ظهره، عيناه مغمضتان. لكن حينما دنا علي منه، ارتفع صدره ثم هبط لمرة واحدة. همد بعد ذلك. سحب علي قفازات لاتكس. لم يكن في الإمكان فعل أي شيء. أخذ حراماً وراح يجمع فيه الإشلاء بقدر ما استطاع، ثم رمى الحرام كصرة في مؤخرة سيارة الإسعاف حيث تتراكم الجثث.

صرخ أحد الثوار الواقفين على الطريق: «يوجد أولاد في تلك السيارة». هرع أَنَس نحو سيارة زرقاء صغيرة، مسحوقة ومجعلكة، على مقربة من موقع الانفجار الثاني. تبدو السيارة كأنها سقطت من الفضاء مع القنبلة. متوترا محموماً راح أنس يخلع الباب بواسطة قضيب معدني. أمٌّ وطفلاها في المقعد الخلفي. رأس الأم مقطوع، وجها الطفلين شاحبين جامدين. بدا عليهما الجمود والشحوب فيما يرفع أنس جسديهما الصغيرين. الصبي فقد رجله اليمنى من تحت الركبة. أخته تلقت شظية مميتة في الصدر.

A child’s body is lifted from the wreckage of a bomb strike.

مكان الانفجار على مقربة من مستشفيات عدة، نُقل الجرحى إليها، بينهم سائق السيارة الزرقاء، زوج المرأة المقطوعة الرأس ووالد الطفلين. أعضاء الفريق يدركون أن ما يقومون به ليس سوى انتشال الجثث من تحت الأنقاض، لكنهم تابعوا عملهم مستعجلين، لأن الموقع مكشوف وقد يتعرض لقنابل الهليكوبتر التي قد تعود في أي لحظة. الجو حار، عابق برائحة أكثر حدَّة من رائحة الدم. صرخ أحدٌ محذراً من قدوم طائرة، فتفرق الحشد إلى قطعان مذعورة راحت تركض في كل اتجاه. لكنه كان إنذاراً كاذباً، فعاد أعضاء الدفاع المدني- بعد انتشالهم آخر جثة- إلى شاحنتهم وتوجهوا إلى المركز القديم. كانت العملية برمتها قد استغرقت خمس عشرة دقيقة.

حتى لغسل الأيادي من الدم لم تكن المياه متوفرة. فالحمام دُمر في انفجار الليلة الماضية. في الأربع والعشرين ساعة الأخيرة، لم ينم أي منهم قط، لكنهم شاركوا جميعاً في إخلاء المركز من عتاده: الأسِرَّة، الطاولات، وعدة الإنقاذ التي تبرع بها الغرب. خرج أحمد وسُرْخاي من مكتب خالد يحملان الأريكة القديمة. بينما كانا يرفعانها صدر عنها مواء حزين. «لولو!»، قال أحمد. أمالا الأركية وبدءا يهزِّانها، وكأنهما يريدان إسقاط عملات نقدية منها، فوثبت الهرة بعد لحظة، ثم راحت تفرك جسمها بأرجلهما.

كانت هي أيضاً أحد الناجين من القصف.

المدرسة ذات الطبقات الثلاث قلعة متينة من الباطون والحجر، على عكس مركز هنانو. كانت قبل الحرب مدرسة ابتدائية، فتوالى عليها لاحقاً لاجئون مختلفون، كحال الكثير من المباني الرسمية. العلامات التي خُطَّت على جدرانها تمثل نوعاً من تأريخ للثورة السورية غير المكتملة. فوق رسومات الزهور والفراشات طبقات عدة من الغرافيتي: «أ. يحب م.»، تعود ربما الى حقبة ما قبل الثورة. وهذا شعار المتظاهرين «سوريا حرَّة»، ثم هذه أسماء بعض الميليشيات والكتائب التي تشكلت على عجل وفرضت سيطرتها تباعا على المنطقة. أخيراً هاهوذا علم داعش الأسود المشؤوم. ف»الدولة الإسلامية» تشكِّل خطراً على حلب ومناطق الريف الشمالية.

عندما ذهب خالد في اكتوبر/تشرين الأول 2013، لاستلام خمس شاحنات إطفاء تبرع بها الغرب، اعتقله قائد من «داعش» على الحدود، وصادر الشاحنات. لكن الثوار أخرجوا «داعش» بالقوة من المدينة في يناير/كانون الثاني 2014. لكن تنظيم «الدولة الاسلامية» عاد إلى الصعود مجدداً، فقواته متمركزة على أقل من ثلاثين كلم شرق حلب، وهو يتقدم.

بالرغم من أن جميع أعضاء الفريق يعتبرون أنفسهم مسلمين ملتزمين، فإن معظمهم كان غير معني بالإسلام الأصولي الذي راح يسيطر على مجموعات الثوار المقاتلين. ضاقوا ذرعاً بفساد النظام وممارساته القمعية، فشاركوا في التظاهرات السلمية التي اندلعت أثناء الربيع العربي سنة 2011. لكن هذا الحراك تحوَّل تمردا مسلحا، بعد المجازر التي ارتكبها النظام بحق المتظاهرين. بحلول يوليو/ تموز 2014، كان الثوار قد استولوا على نصف مدينة حلب، لكنهم وجدوا الطرق مقفلة على طول الجبهات الأمامية، فظل الوضع على حاله، عموما، منذ ذلك الحين.

In the Old City of Aleppo along the front line, large tarps are hung in between building to limit the view of regime snipers who have been targeting rebel fighters as well as civilians.

بداية، كانت الحياة مليئة بالأمل في القسم الذي سيطر عليه الثوار من المدينة. التقدم الذي أحرزه الثوار في الأرياف، فتح لهم خطوط الإمداد إلى تركيا، فعاد لاجئون كثر من الذين فرُّوا اليها بعد المعارك الأولى. كانت الأسواق تعجُّ بالبضائع والمتسوقين، وتطوع كُثُرٌ من المدنيين لتسيير أمور الحياة في المدينة. خالد نفسه انضم إلى مكتب للثوار كان يوزع المواد الغذائية على المحتاجين، ثم تطوع معلما في مدرسة. لكن القصف الجوي تصاعد وراح يستهدف السكان، فتساقطت صواريخ ضخمة، من طراز سكود، في فبراير/شباط 2013، على أحياء تابعة للثوار، ودمرت العشرات من البيوت وأودت بحياة المئات.

آنذاك، صارت جليَّةٌ الحاجة إلى فريق إغاثة مدني. فالقنابل لم تقتل الناس وتتسبب لهم بإعاقات وحسب، بل كانت تدفنهم تحت الأنقاض. كل غارة كانت بمثابة هزة أرضية. لدى انهيار أي مبنى، يحتشد سكان الحي كلهم خارجاً، ويباشرون النبش في الحطام والركام، ضاربين بأدوات بدائية على كتل الباطون لتفتيتها. في خِضَمِّ هذا الصخب، يتعذر سماع صراخ شخص مدفون يطلب النجدة. أحياناً، قد يأتي أحد بجرافة ويبدأ بإزالة الركام، فيقتل، في أغلب الأوقات، من بقي حياً داخل الأبنية المهدمة. كان يمكن، إذاً، إنقاذ من علقوا، فهم عادة يبقون على قيد الحياة أياماً، إن لم تكن إصاباتهم بليغة، لكن هذا يتطلب عمال إنقاذ مدربين.

شُكِّل فريق هنانو من أشخاص منخرطين في المقاومة غير المسلحة، كان أول المتطوعين من حلب. سُرْخاي وأخوه التوأم، شَهُود (Shahoud)، هما العضوان المؤسسان، ثم انضم خالد اليهما بعد فترة قصيرة.

في ذلك الوقت تقريباً، كانت (أ.ر.ك:ARK)، وهي شركة مقاولات مقرها اسطنبول، قد حصلت على تمويل مصدره الولايات المتحدة وبريطانيا، غايته إرسال «مساعدات غير فتَّاكة» للمعارضة السورية. هذه الشركة جعلت فرق الإنقاذ من أولويتها. وتيرة القصف الذي مارسه الأسد، تعادل ما جرى في الحروب الأوروبية التقليدية، فأعادت (أ.ر.ك) إحياء عقيدة تعود الى وقت قصف الألمان لندن أثناء الحرب العالمية الثانية: الدفاع المدني. تعاونت (أ.ر.ك) مع منظمة (أ.ك.و.ت:AKUT) التركية التي تُعْنى بآليات الإنقاذ استجابة للزلازل، على إنشاء مركز في جنوب تركيا لتدريب فرق الإنقاذ الجديدة. هناك تعلَّم شبان هنانو تقنيات البحث والانقاذ الأساسية، إضافة إلى الاسعافات الأولية، وكيفية مكافحة الحرائق. وهناك أيضا جُهِّزوا بشاحنات وملابس مُوَحَّدة ومعدات، وأعيدوا إلى سوريا.

ما تلقوه من تدريب أثمر في حينه. ففي خريف 2013 بدأ ميزان القوى ينقلب لصالح الأسد. بعدما قتل النظام في 21 اغسطس/ آب 2013، أكثر من ألفي شخص بواسطة غاز السارين في ضواحي دمشق، ثم رَفَضَ الغرب التدخل، عاود بشار ضرباته. حلب، المحور الحيوي في الشمال السوري، احد أهدافه الرئيسة. ولكسر قبضة الثوار على النصف الشرقي من المدينة، لجأ النظام إلى سلاح كان قد اختبره في مناطق أخرى: البراميل المتفجرة.

[ نشر هذا التحقيق على موقع مجلة «ماتر» Matter الإلكترونية بتاريخ 15 سبتمبر/ ايلول 2014. العنوان الألكتروني لموقع المجلة هو: https://medium.com/matter/whoever-saves-a-life-1aaea20b782

كاتبه هو ماثيو أيكنز Matthiew Aikins الذي مكث مدة في حلب في يونيو/حزيران 2014. أيكنز كاتب وصحافي كندي عُرِف بتغطيته الحرب في افغانستان. عمل كذلك كمراسل من باكستان وسوريا، ونشرت كتاباته في العديد من الصحف والمجلات، ك «الغارديان» و «الأتلانتك» و «هاربرز» و «الرولنغ ستون» و «جي كيو». حاز عدداً من الجوائز من بينها جائزة جورج بولك للصحافة.

(حلقة ثانية وأخيرة من شهادة ميدانية كتبها

من حلب الصحافي الكندي ماثيو أيكنز )

Down time between bomb blasts.

بدأت الحملة العسكرية لنظام الأسد قوية وعنيفة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013. انهمرت القنابل بالعشرات في كل ليلة على أسواق حلب ومبانيها السكنية المكتظة، فقتلت في أسبوعين أكثر خمسمائة شخص، معظمهم من المدنيين. عمل فريق هنانو للدفاع المدني بلا كلل على إغاثة الناس في مواقع الانفجارات، مجزرة تلو مجزرة، من الصباح الباكر حتى أواخر الليل. بالكاد كان لدى الفريق وقت لتناول الطعام.

مع ذلك ظلوا متماسكين حيال المحن. اثنان منهم تركا الفريق في السنة الماضية. أحدهما استجاب لإصرار عائلته: «الناس ينتظروننا»، يقول، ويرد خالد بعد كل انفجار: «نعرف أنهم ينتظروننا». يرددون الآية القرآنية التالية: «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً» (سورة المائدة، الآية 32). هذا شعارهم على الرغم من سخريتهم المُرّة السوداء. فمهمتهم إعانة الضعفاء والعاجزين، مجازفين بحياتهم ليحيا الآخرون، حتى بعد خسارة ثلاثة من زملائهم وتدمير مركزهم.

في حب البنات

One last cigarette in the team’s destroyed headquarters before moving out.

مع حلول المساء، بدأت لوازم المركز القديم تتجمع في المدرسة، بما فيها الصنادل البالية التي انتشرت في الردهة. قاعة تدريس فارغة، ولا تزال شعارات «داعش» على جدرانها. رتبوا المعدات واللوازم، وأخلوا مساحة للأسرة في الطابق السفلي، حيث الحماية من القصف الليلي أفضل. هنالك المزيد من الغرف، لكنهم معتادين على النوم متقاربين. وضع خالد مكتبه وأريكته في الغرفة المجاورة لقاعة التدريس، وأعلن للجميع:

- هذا فندق من خمسة نجوم!

- لا زلت أفتقد المركز القديم، قال سُرْخاي متنهداً.

كانوا جالسين على الأرض في غرفة الاستراحة، لمتابعة محطة الثوار «حلب اليوم» على جهازهم التلفزيوني العتيق المتداعي. لقد رتبوا الغرفة بطريقة شرقية، واضعين السجاد والوسائد على شكلِ نصفِ دائرة في مواجهة التلفزيون. بالرغم من الواقع المرير في المناطق الريفية، لا تزال المحطة متفائلة مبتهجة، عارضةً لقطة تلو أخرى لثوار يطلقون صواريخ مضادة للدبابات، وقذائف هاون، على مواقع النظام. فجأة، تعرَّف شبان الفريق على أنفسهم.

«أنظروا، هؤلاء نحن!» صرخ أَنَس، فرفعوا صوت التلفزيون.

كان المذيع يقول ان النظام قد استهدف مركز الدفاع المدني في هنانو ودمره، وانه لم يكن هناك أي إصابات.

«كان علينا ان نخبرهم بأننا قُتِلنا جميعاً، فربما عندها يتركنا بشار وشأننا»، قال علي.

شَهود، التوأم الأكبر، جاء بخضر طازجة ومازات وخبز. «وهل تعتقدون أننا سنعيش لوقت طويل؟»، قال مربّتاً على بطنه، ثم وتابع: «نحن نأكل حتى لا يفوتنا شيء»، فتحلقوا جميعاً حول الطعام.

«إسمعوا يا شباب، سوف أنشَقُّ عنكم»، أعلن توأم شهود الأصغر، سُرْخاي، فيما كانوا يشعلون سجائرهم. تناول هاتفه الخليوي وأراهم صورة امرأة شقراء بلباس مثير واقفة إلى جانب جندِيَيْن من النظام. «انظروا إلى هذه البنت، ثم انظروا إلى لِحاكُم»، قال هازاً رأسه بقرف.

«كل البنات المثيرة في مناطق النظام»، قال أَنَس. «ليس لدينا هنا سوى القاعدة. أما بشار، فينكح النساء في جاكوزي منذ بداية الحرب»، قال سُرْخاي غاضباً وتابع: «إنني مُثار طوال الوقت لكني لا أعتقد بأنني قادر على ان أُحَبِّل امرأة بعدما عشت على هذه الحال».

«لمَ لا تنكحوا أنفسكم»، اقترح علي.

A civilian calls to his family members trapped inside what had been their home.

ضحك خالد بخجل. هو لم يعرف امرأة في حياته. كانت هناك فتاة قبل الحرب، لكنها تزوجت من شخص آخر. باقي شبان الفريق أيضاً ليس لديهم خبرة مع النساء. بعضهم، كأحمد الرومنطيقي، خاطب. وحده شَهود لديه أسرته الخاصة. لقد عطلت الحرب جميع مشاريعهم. حتى عندما أصبح واضحاً انها ستطول، لم تشأ عائلات كثيرة تزويج بناتها من أحد مجانين الدفاع المدني.

المزاح، الى جانب التدخين، هوايتهم الرئيسة. كلما كانت الروابط التي تجمعهم أمتن وأكثر حنانا،ً ازدادت حدة شتائمهم. ذلك ينطبق خصوصاً على مهرج المجموعة سُرْخاي. فبعد أن وجد في وقت سابق من ذلك النهار طابة معدنية في حجم كرة تنس- تُحدثُ حين تتدحرج صوتاً مريباً يشبه صوت مروحية مُغِيرَة — راح يدحرجها خلف زملائه ويتفرج عليهم يقفزون من الخوف.

ليس من السهل الانضمام إلى مجموعة تربطها لحمة مماثلة. بعد الظهر، جاء شاب ممتلئ الجسم مجعد الشعر اسمه عمر. إنه في التاسعة عشرة، وطلب الانتساب الى الفريق. لديهم مكانان شاغران، لكن خالد كان متشككاً. سوف يعطيه فرصة لبضعة أسابيع ويرى كيف سيتعامل مع الجثث وتكتيك الضربات المزدوجة الذي تتبعه طائرات النظام. كثيرون هم الراغبون في الانضمام، لكن قلة فقط تستمر لأكثر من أسبوع. خالد أوكل إلى شعبان (Shaben)، الاعتناء بالمبتدئ، عمر. فشعبان مخضرم، ويمتلك خبرة ثمانية أشهر، وهو ناضج، فقد بلغ الرابعة والعشرين.

لكلٍ لقبه الخاص. علي النحيل يدعى سَنْكُور (Sankour)، اي المتشرد: «لأن له هيئة رجل فقير»، أوضح سُرْخاي.

لطيف في شورته الواسع وشعره الطويل المنفوش المائل الى الاحمرار، يشبه راكب أمواج من كاليفورنيا، ولقّب بالظواهري، نسبة الى رئيس تنظيم «القاعدة» الحالي، أنور الظواهري. فهو سبق ان ارتبط على نحوٍ ما بالقاعدة. شقيقاه يحاربان مع «جبهة النصرة»، وقاتل هو الآخر مع مجموعة جهادية على صلة بـ»القاعدة». لدى سؤاله إن كان يشاركهم نظرتهم الى دولة سورية قائمة على أسس الشريعة الإسلامية، أومأ برأسه وقال مبتسماً: «إن شاء الله».

يرى أهله أن ولدين من أبنائهم يشاركان في القتال أمرٌ أكثر من كاف. لذا أرغموه على ترك التنظيم الذي ينتمي إليه. لكنه كان تواقاً الى المغامرات، فأعلن لأهله: طالما لم أمت في الحرب، فإنني على الأقل أريد الاستشهاد. عندما عرف مدى خطورة العمل في الدفاع المدني، انضم إليهم.

«أيريد ان يكون شهيداً؟»، سأل خالد الذي يسمع الحديث. راح يضحك غير مصدق: «لكنه يعشق البنات»، فصاح الشبان موافقين. «لقد ذهب في ذلك اليوم الى موعد غرامي مع فتاة من مخيم أعزاز». لم يكن ذلك سلوكاً مناسباً لمتطرف.

In the new headquarters, the team placed their bunks in the basement for a more fortified night sleep.

«هي خطيبتي»، قال معترضاً مومئاً بيديه، كأنه يضع خاتماً في إصبعه. «خطيبتي!»، راح يكرر بينما علت قهقهات الشبان الآخرين.

براميل متفجرة ومتاعب إدارية

صوت مروحية مُغِيرَة أيقظهم. كمراهق نكِدٍ سحب خالد الشرشف الى ما فوق رأسه. الانفجار الذي أصمَّ الآذان، كان قريباً. فُتِحتْ الأبواب وكُسِرَت نافذة. انتظروا الدوي الثاني وهرعوا في اتجاه الشاحنة. أبو ثابت كان قد وصل لتوه مع الخبز الطازج. «الانفجار في صاخور»، قال لهم، فصعدوا فوق أكوام الخبز الذي كان لا يزال ساخناً وانطلقوا مسرعين.

A wounded member of Civil Defense awaits news on a his teammate’s condition inside a makeshift hospital.

موقع الانفجار كان قريباً جداً. لقد دمر البرميل المتفجر بيتاً فارغاً تدميراً كاملاً وهدم النصف الأمامي من مبنى من سبعة طبقات، فبدت دواخل المطابخ والحمامات، كأنما البناية بيت دمىً. قتل شخصان، وفي الأعلى علقت نساء وأولادهن. من الأسفل، راقب أعضاء الفريق أحمد وأَنَس يصعدان درجاً مكشوفاً، ثم ينزلان النساء والأولاد، مكسوة وجوههم ووجوههن بالغبار الأبيض، فبدت النساء كبنات الغيشا اليابانيات.

هم في طريقهم إلى المركز، أراح أحمد رأسه برضى على كتف أَنَس. رائع هو الشعور بأن تنقذ شخصاً عالقاً بين الأنقاض، كأنه نصر على القنابل.

لدى وصولهم لاحظ خالد أن الانفجار خلع باب مكتبه من مفاصله. كان هذا يومهم الثالث في المركز الجديد. نظر نحو السماء. «الى أين تريدنا أن نذهب!»، صرخ للا أحدٍ، في الفراغ، على وجه التحديد. لاحقاً في ذلك الصباح، عاد ابو ثابت بسيارة الأجرة، فقرر خالد القيام بجولة على مراكز المدينة. بصفته قائد العمليات الميدانية في منطقة حلب كلها، كان من المفترض ان يمتلك خالد سيارته الخاصة، لكن هذه تعطلت ولم تقم البلدية بإصلاحها بعد. بدأ يشك في أن التأخير متعمّد من رئيسه عمّار سَلْمُو (Salmo)، قائد الدفاع المدني المعين من أطراف سياسية. خالد يعتقد أن عماراً يحسده على شعبيته.

شركة (أ.ر.ك:ARK) التي جهزتهم بمعدات الدفاع المدني، كانت تطالب خالداً بأن يزودها بلائحة مرشحين لدورة تدريب جديدة، على أن يجري اختيارهم من بين فرق الإنقاذ الأربع ووحدة مكافحة الحرائق في المدينة. كان عليه الحصول على توصيات من قائد كل مركز، فاتجه في السيارة الى باب النَيْرب، حيث المركز الأقرب. قرع الباب، فلم يلقَ جواباً. صعد الى المكتب في الطابق الثاني. لا يزال القائد ابو رَجَب في ثياب النوم يفرك عينيه من النعاس، بالرغم من ان الوقت ظهراً. أطلعه خالد على شروط (أ.ر.ك:ARK) وعن عدد الأشخاص المطلوب لكل صف. سيكون هنالك بالطبع تدريب أساسي وعلى المعدات الثقيلة، الى دورة على الاسعافات الأولية، وأخيراً دورة على القيادة. أبو رجب يستمع كأنه في غيبوبة، ومن دون ان يدّون ملاحظة قط. «طيب شكراً»، قال خالد ضاغطاً على نفسه لاحتواء انزعاجه.

The catacombs of Aleppo.

تابع طريقه الى مركز فريق الإطفاء القريب، وهو ايضاً تحت إمرة ابو رجب. وجد واحداً من الشبان الذين كان قد اشرف عليهم ودعمهم في مسيرتهم. سكب له الشاب شراب الكولا في كوب من البلاستيك، فراح خالد يرتشف الشراب مصغياً الى الشاب الذي يعبر عن استيائه من رئيسه. كان الشاب اطفائياً منذ ما قبل الحرب، وهو يعرف عمله جيداً: «يقول لي: إن لم تكن راضياً فاذهب للعمل مع فريق هنانو»، افصح الشاب.

هزَّ خالد رأسه: «ماذا حدث لجهاز اللاسلكي؟». أجهزة لاسلكي عدّة كانت قد اختفت من مركز باب النيرب.

«هو يقول إن شخصاً ما سرقه من منزله»، قال الشاب.

«إنه يبيعها، هذا كل ما في الأمر»، تنهد خالد قائلاً. فهذا النوع من الفساد على نطاق ضيِّق غدا مشكلة متفاقمة. العمل في الدفاع المدني كان تطوعاً محضاً من قبل، إلا ان الأعضاء صاروا الآن يتقاضون رواتب من البلدية.

«غداً، سأرسل لك شخصاً كفوءاً من فريقي للمساعدة»، قال خالد مربتاً على ركبة الشاب. «إن بَقِيَ غير نافع — قاصداً ابو رجب — سوف نطرده». أنهى شراب الكولا وتابع: «علينا ربما طرد كثيرين».

خرج خالد واشعل سيجارة. كلامه عن طرد اشخاص ليس سوى تبجح. بداية، بعدما دربته شركة (أ.ر.ك:ARK)، شارك في تأسيس مراكز حلب الأخرى. كان آنذاك، بحكم الأمر الواقع، القائد الفعلي لجميع فرق المدينة، وفي يده سلطة القرار في كل ما يتعلق بالمعدات وطواقم عمال الإغاثة. لكن برنامج الدفاع المدني أُلحق بالسلطة المحلية، التي أُلحقت بدورها بـ»المجلس السوري الوطني». وهذا كناية عن حكومة الثوار في المنفى، على ما أراد مانحو الغرب، بالرغم من كون المجلس الوطني، حسب ظن خالد وفريقه، كناية عن زمرة سياسيين فاسدين مقيمين في فنادق تركية من فئة الخمس نجوم. وعندما قرر مجلس البلدية اعتباطياً ان على قائد الدفاع المدني امتلاك شهادة جامعية، اخْتِير عمار، ذو الصلات الواسعة بذوي الشأن، على حساب خالد.

Civilians and Free Syrian Army fighters search for survivors.

عَيَّن عمار في الدفاع المدني المقربين منه كأبو رجب الكسول. عمار يكره خالداً لكنه لا يستطيع التخلص منه، فلخالد سلطة معنوية كبيرة. بعد مقتل ثلاثة أعضاء من مركز هنانو خلال عملية إنقاذ، رفض مجلس البلدية ان يستمر بدفع رواتبهم لعائلاتهم. نزل خالد ورجاله الى الشارع رافعين الشعارات، فرفض اعضاء المراكز الأخرى الانضمام اليهم. لكن فرق الدفاع المدني وفريق هنانو خصوصاً، تتمتع بشعبية كبيرة، فأَحْرَجت تغطية الاحتجاج إعلامياً مجلسَ البلدية الذي اضطر الى دفع الرواتب.

عرف خالد ان عليه ممارسة ما في وسعه من تأثير عبر شبكة الشبان المخلصين له الموزعين بين مختلف فرق الدفاع المدني. ليس بمقدوره فعل اي شيء إزاء فساد مجلس البلدية وعدم فعاليته وتبعيته للمجموعات المسلحة التي تفرض سيطرتها على المدينة. يقول إن استمرار الحرب، حوّل الثورة الى تطرف ديني وصراع سلطوي.

كان يقف خارج مركز الإطفاء، متحدثاً عن هذا الواقع المزري، فمرت أمامه شاحنة حمراء، كأنما لتثبت اقواله. هي أكبر من شاحنته وأجمل. في داخلها رجال ثلاثة بنيتهم متينة، حليقو الشاربين، لحاهم طويلة يرتدون ثياباً مدنية. هم من «جبهة النصرة»، فرع تنظيم «القاعدة» المحلي. لديهم فريق إطفائهم الخاص، وقد اعطتهم البلدية أفضل المعدات التي تم التبرع بها. عندما رأوا لباس خالد النظامي، ابتسموا ولوحوا له بأيديهم. أخذ خالد مجَّة من سيجارته وردَّ عليهم التحية على مضض.

جغرافيا الحرب

لدى تجْواله برفقة ابو ثابت في السيارة، يتأمل خالد المدينة من منظور جغرافيا مستحدثة ناجمة عن الحرب. جغرافيا حجبت تماماً ذكريات الحياة القديمة، لتُحِلَّ في مكانها معالم مستَجِدَّة، هي مواقع المجازر وعمليات الإنقاذ المستحيلة. لم يكن النظام يسعى الى التدمير المادي فقط — يظن خالد — بل هدفه هو تجمعات سكنية بأكملها أيضاً. احياء برمتها صارت مهجورة في القسم التابع للثوار من المدينة. لدى سؤاله الناس عن سبب بقائهم بالرغم من كل شيء، يحصل خالد على ثلاثة انواع من الأجوبة: إما لأنهم فقراء جداً، لا يستطيعون المغادرة. وإما لأنهم عنيدون جداً، فلا يتركون منازلهم. وأما لأنهم صاروا قدريين، معتقدين بأن ساعتهم ستأتي أكانوا في حلب ام في مخيمات اللاجئين. يائسون أو مجانين. وخالد بدوره أقسم لهم بأن الدفاع المدني سيكون آخر من يغادر.

A critically injured volunteer is treated for shrapnel wounds.

هل من حرب مثل هذه في التاريخ؟!، يتساءل خالد. يقال إن ما يقارب 200 ألف سوري قتلوا حتى الآن. تسعة ملايين آخرين هربوا من منازلهم. لمَ يسمح الله بهذا؟ ألعله امتحان؟!، ثم أخذ يفكر بمذكراته التي كان قد تركها في منزل أهله. نشأته كولد أوسط بين اشقائه السبعة عشر (تزوج والده ثلاث مرات)، فلم تتح له فرص كثيرة. على نفسه تعلم التاريخ والشعر. تسجل في الجامعة بعد تخرجه من الثانوية العامة، لكنه سرعان ما ترك الدراسة ليكسب لقمة عيشه، فبدأ يعلّم في مدرسة مهنية تُدَرِّب ممرضات وكهربائيين. غالباً، كان يكتب مذكراته في الليالي، متسائلاً بحيرة عما يخبئه له المستقبل، ومحاولاً الإجابة عن السؤال التالي: ماذا عليّ ان أصبح؟ الحرب كانت الجواب.

داخل الركام

الحياة في حلب كغبار الباطون الذي يغطي كل موقع انفجار: أحادية اللون كفيلم باهت بالأبيض والأسود. الأنقاض التي يغوص فيها خالد مجبولة كطعام تقيأته معدة. حيث كان ذات يوم مبنى مكَوَّن من اجزاء وأشياء مختلفة: أبواب، نوافذ، شرفات، كراس، طاولات، خزائن، لتشكِّل مجتمعة منازل لأشخاص محددين، صار الناس الباقون عبثاً يجتهدون لرؤية اشياء متمايزة في حطام الكتل الرمادية المتشابهة. هذه ربما مروحة، هذا سقف مائل وذاك طرف فراش. أما ذلك الشيء، فقد يكون حذاء امرأة. لقد غطى الغبار كل شيء: ضوء سماء المساء، وشعر عمال الإنقاذ، وفي حلوقهم ذاك الطعم المعدني. غبار كالثلج على اطارات النوافذ، على الرموش المرتعشة ارتعاشات مذهولة. ومع حلول الليل، يبدو كأن الغبار ينهم عليهم كثيفاً في الظلام.

An X-ray image of the team member’s lungs, showing shards of shrapnel.

لا كهرباء في المدينة الحالكة السواد، الساطعة في سمائها النجوم. الأحياء المقفرة، المقصوفة بشراسة، تمتد في الليل كالمقابر على جانبي الطرق التي يسلكها خالد وابو ثابت. بضع زوايا تضيئها طاقة المولدات، كأنها جزر يمران قربها. يطفئ السائقون مصابيح سياراتهم خوفاً من المروحيات. ينساب ابو ثابت في الظلمة عبر الشوارع المألوفة، مستشعراً الحفر وأكوام الركام قبل أن يراها، كأعمى يوجه ضوء مصباحه نحو الارض، كأنه يضربها بعصاه بين حين وآخر. أو كأنه في غوّاصة تنساب في قاع محيط.

ليلة أرق أخرى في الطبقة السفلى من المدرسة. لطيف، مُشَجِّع تنظيم «القاعدة»، أوى إلى فراشه مستمعاً إلى أغنية بوب تتكرر إلى ما لانهاية على هاتفه الخليوي. القصف عنيف صخّاب، أسوأ منه البعوض المتعطش للدماء. أولى قنابل الفجر كانت اشبه بالفَرَج.

لبس اعضاء الفريق ثيابهم متعجلين واسرعوا نحو الشاحنة بقيادة سرخاي. فطورهم سجائر، فيما وهم يتخضخضون في شوارع حلب المهشمة. مهرج الفريق سرخاي ظل صامتاً هذه المرة. كان هذا يومهم الخامس في المركز الجديد.

مكان الانفجار في اسفل شارع جانبي ضيَّق. من سماء الصباح الصافية سقط برميل متفجر على مبنى سكني صغير، فانهار جزئياً. معظم افراد الأسرة الكبيرة التي تسكنه نجوا. كانوا واقفين في الشارع قلقين. شقيقتان محجبتان تتشبث إحداهما بالأخرى تجهشان في البكاء، ورجال يحفرون بغضب في الركام. ترجل سرخاي من الشاحنة، ركض نحو رجل عجوز لا يزال في ثياب نومه، مكسواً بالغبار. «هناك صَبِيَّان عالقان في الداخل»، قال العجوز.

حسب التدريب الذي تلقوه في تركيا، يتوقف اختيار تقنية الانقاذ على نوع المنشآت ودرجة انهيارها. لدى سقوط بناية اسمنتية — أكان السبب قنبلة او هزة ارضية — تنهار عادة طبقاتها واحدة فوق أخرى. غالباً ما تبقى مساحات صغيرة فارغة حول الأعمدة والأدراج وقطع الأثاث الثقيلة، فتسمح للعالقين أن يظلوا أحياء. أهم شيء هو بلوغ هؤلاء سريعاً، قبل حدوث انهيار آخر.

الخطوة الأولى هي تحديد موقع الضحايا. تعرف العائلة ان الولدان كانا نائمين في غرفتهما، فصار لدى اعضاء الدفاع المدني فكرة عن مكان وجودهما.

هنالك طريقتان متاحتان. الأولى، المعروفة بالإنقاذ الأفقي، تتمثل بحفر نفق يُدَعَّم تدريجاً بقطع خشب أثناء عملية التقدم. الثانية، وهي الإنقاذ العمودي، تتطلب الحفر، إما من فوق الضحية وإما من تحتها. قرر اعضاء الفريق اللجوء الى الطريقتين في آن واحد. دخل سرخاي الى دكان صغير في الطابق الأرضي من المبنى، وشرع يحطم جداره الخلفي بمعول. علي صعد الى كومة الركام، وبمساعدة أب الأولاد، راح يحفر نحو الأسفل حيث كانت غرفة النوم.

الرجل العجوز والمرأة وقفا في الشارع يتفرجان في ذهول على رجال يحتشدون فوق كومة الركام التي كانت منزلهما قبل حين. هما خياطان بسيطان يحاولان تحصيل لقمة العيش في حلب، فلِمَ يرغمان على مغادرة بيتهما من أجل بشار الأسد؟.

من على كومة الركام، كان علي يستطيع سماع الولدين يطلبان النجدة، فضاعف الرجال جهودهم. بالرغم من تعاظم احساسهم بالإلحاح كلما اقتربوا اكثر من هدفهم، كانوا يبطئون من وتيرة عملهم، فصار بحثهم المحموم شبيهاً بعمل فرق الحفريات الأثرية. أزالوا قطع باطون صغيرة، اقتلعوا قطعاً اكبر من مكانها، قطعوا قضباناً متشابكة من الحديد المسلح، فتحوا أخيراً فجوة في الأرض: ها هما الوالدان الشقيقان لم يلحق بهما أذى. كانا على ما يبدو، يجلسان القرفصاء قرب سريريهما. خرجا مكسوين بالغبار الأبيض، كأنهما قُذفا من جديد الى الدنيا.

نقلهما علي وسُرْخَاي الى سيارة اسعاف، فهرعت أمهما تبكي فرحاً بهذه الولادة الثانية. حتى سُرْخَاي كاد يذرف دمعاً لدى رؤيته جمع الشمل هذا.

غدر الهليكوبتر

منتشين عادوا الى المركز. لم يتسنَ لهم سوى شرب فنجان شاي واحد، فأتاهم اتصال من فريق الإطفاء يطلب منهم المساعدة. رافقهم خالد هذه المرة. ساروا بشاحنتهم في شوارع المدينة الضيقة حيث تتصاعد اعمدة دخان سوداء من حريق كبير. لقد أشعلت رصاصة قناص حارقة مستودع بضائع جافة في احد المتاجر. فريق الإطفاء الذي يقوده صديق خالد، واجهته صعوبة في إخماد النيران، فمضخة الماء لم تعمل على نحوٍ سليم. احمد، الاطفائي السابق، لبس بدلة واقية وراح يساعدهم.

التقط خالد اشارة ما على جهازه اللاسلكي. كان هنالك قصف في الجهة المقابلة من المدينة، لكنه لم يفهم ما تبقى من الرسالة، فالإرسال على عادته، رديء جداً. عادوا الى الشاحنة مسرعين وانطلقوا. فيما هم يعبرون السوق الرئيسي التابع للثوار، انحرفت في اتجاههم سيارة أجرة صفراء صغيرة. كان هذا سائقهم أبو ثابت الذي صرخ: «لقد أصيب الشباب! إنهم في المستشفى».

بينما راح ابو ثابت يغير اتجاه سيارته، هرعت الشاحنة نحو المستشفى في أسفل الطريق. كان عدد من شباب الدفاع المدني واقفين خارجاً، يخطون جيئة وذهاباً ويدخنون. بعضهم كان يبكي. عمار، العضو الجديد المبتدئ، كان مغطى بالغبار وخيط دم يسيل من صدغه: «ماذا حدث؟»، سأل خالد.

«كنا نحضر الماء عندما أتت الهليكوبتر»، أجابه عمار. «حاولنا الاحتماء، لكن الانفجار كان قريبا جداً. أنا بخير، لكن شعباِن (Shaben)…»

تطلع خالد نحو المستشفى. كان وجهه شاحباً. «اذهب الى المنزل»، قال.

«أريد أن أبقى»، أجاب عمار.

دخل خالد الى ما تبقى من المستشفى التي كانت أكبر واسمها «دار الشفاء»، وقصفها النظام العام الماضي. الأطباء والممرضات الذين بقوا على قيد الحياة، انتقلوا الى مركز تسوق صغير، حيث أعدّوا أسرّة للجرحى في دكاكينه الضيقة. شعبان (Shaben) الذي أشرف على المتطوع المبتدئ، كان عاري الصدر، متصلاً بأنبوب مصل، رأسُه وجذعه مدميان مضمدان، فيما طبيب يلف جبهته بالشاش. «يا خالد، يا خالد»، نَعَقَ بوهن عندما رأى خالداً واقفاً فوقه.

«كل شيء بخير»، قال خالد ضاغطاً على يد شعبان (Shaben) الذي أصيب في جذعه واظهرت صورة الأشعة السينية شظايا استقرت في جسده. كان محظوظاً، فأي منها لم تصب شرياناً أو عضواً حيوياً. عليه الذهاب الى تركيا لإجراء عملية لإزالة الشظايا. اهتم خالد بالترتيبات اللازمة لنقله، ثم رجع مع الشباب الى المركز، حيث انهار الجميع في الردهة على الكراسي. لم يحاول أحد المزاح.

«اين كنتم؟ كنا نبحث عنكم»، قال شَهُود الملطخ سرواله بدم شعبان (Shaben). داعب خالد شعر شَهُود بنعومة.

«إنه برج الراديو اللعين»، تابع شَهُود. «سمعنا المروحيات تقترب فحاولنا أن نتصل بهم على اللاسلكي كي ينقذوا أنفسهم، لكنهم لم يتمكنوا من سماعنا».

أحس خالد بغضبه يغلي. في مرات كثيرة طلبوا من البلدية اصلاح «برج الراديو اللعين»؟ هل من المفترض أن يستمروا بالمخاطرة إلى ان تتعطل كل معداتهم الرديئة؟ هؤلاء الحقيرين الأنذال في مجلس البلدية يمارسون الألاعيب السياسية ويحشون جيوبهم بالأموال، فيما يتعرض رجاله للإصابات! «يا علي، سنخبر كل شيء على الفايسبوك»، قال خالد. «اكتب أن سبب إصابة شباب الدفاع المدني هو عدم عمل البرج على نحوٍ سليم! أصيب اثنان خلال عملية انقاذ. منذ سنة نقول إننا في حاجة الى برج سليم!».

علا صرير قلم علي في الصمت. راح خالد يفكر بعمّار، العضو المبتدئ. لم ينتسب بعد رسمياً الى الفريق، وها هو قد أصيب. صار واحداً منهم الآن. ثم تذكر خالد اللقاء الذي جرى في ذلك اليوم في الريف بين أعضاء مجالس البلدية وقادة فرق الدفاع المدني من مناطق الشمال التابعة للثوار. كانت تلك فرصة مناسبة لإبراز أنفسهم وممارسة الألاعيب السياسية. هذا بالضبط ما يكرهه خالد. «اللعنة عليكم» قال، وضحك بمرارة.

التستوستيرون والأدرينالين

في معظم الليالي، لدى خروجه الى باحة المركز، كان في مستطاع أحمد، الاطفائي السابق، رفع ذراعه النحيلة والإشارة الى حرف W الذي تشكله مجموعة الكراسي النجمية. تكون حينها النجوم ساطعة في السماء الصافية، وهي نفسها التي يراها سكان أميركا الشمالية بعد ست ساعات. نجمته هي النجمة غاما ذات الكرسي، والتي تتوسط حرفW. أما نجمتها فهي ألفا، إلى الأسفل يميناً. وتلك نجمة حبهما، بيتا ذات الكرسي العملاقة التي تبعد أربعاً وخمسين سنة ضوئية.

يحتفظ أحمد بصورة لخطيبته على هاتفه الخليوي: تبدو رزينة في حجابها، لكن في عينيها بريق دعابة. هي عالقة في طرف المدينة التابع للنظام، حيث العيش أكثر أماناً على الأقل. وهما يتواصلان عبر «الفايسبوك» و»السكايب».

يتخيل جميع شباب الدفاع المدني حياة أفضل بعد الحرب. لكن أحداً منهم لا يعلم متى تنتهي هذه الحرب. خالد يشعر أنها طويلة، ويتساءل ما الذي ستبقيه من البلد. على هذا النحو أو ذاك، لقد انحرفت الثورة عن مسارها انحرافاً مأساوياً، فهل يمكن أحداً القول بعد الآن إن الثوار أو النظام على حق؟ لقد أدار لهم العالم ظهره، هذا كل ما يمكن أن يقال.

لكن قدرتهم على التحمل التي تحثهم على المضي قدماً في مهمات الإنقاذ، لم تسمح لهم بالاعتقاد أن قضيتهم عقيمة. سينصرهم الله من دون شك، على الرغم من أن حلب يحاصرها النظام و»داعش» حصاراً تاماً. فُتُوَّتُهم وبسالتهم ستقيانهم، في الأثناء، من اليأس، من دون أن تدفع عنهم الدمار واحتمال الموت. إنهم يختبرون في هذه الحرب عواطف لن يشعروا بمثلها مرة أخرى في حياتهم. فالحرب في لحظاتها الأكثر جموحاً، تمنحهم نشوة أعظم من تلك التي تَنْجم عن أي مخدِّر أو علاقة غرامية. وهي في الأوقات العادية الدنيوية، تضاعف صلابة صداقتهم، التي أضحت أقوى من البراميل المتفجرة المتساقطة من السماء. حتى لو كانوا من المدمنين على «التستوستيرون» و»الأدرينالين» اللذين يحصّلون جرعاتهما من معارك الجبهات السورية، فهم على الأقل أبرياء من وصمة القتل. هذا ما يحميهم ربما. لقد أنقذوا أنفسهم فيما هم ينقذون الآخرين.

كان نهاراً شاقاً طويلاً وراحوا يستعدون بعده لليلة قصف أخرى. في إمكانهم سماع هدير الطائرات النفاثة والمروحيات وصوت القصف على الخطوط الأمامية. لكن الى حين ورود اتصال، يروحون عن أنفسهم بطريقتهم المفضلة: التدخين وأكل البزر والمزاح. استرخوا في أرجاء غرفة الجلوس. خالد سند رأسه على كتف رب العائلة، شَهُود، العاري والكثيف الشعر، وأخذ يرمي المكسرات في فمه. في الزاوية استلقى علي، الملقب بالسنكور (أي المتشرد)، وشَرَع يمسد شعره القصير من الأمام والطويل من الخلف. سُرْخاي، أحد التوأمين، يملك طبلاً، فأخذ يعزف عليه، كأنه ينفض الغبار عن سجادة. لطيف الذي كان لا يزال مرتدياً شورته الواسع، يستمع الى أغاني بوب عربية على هاتفه، فيما بدأ الشباب يرددون كلماتها، ثم وقف مع أحمد ورقصا الدبكة. أطلق سُرْخاي صرخة ذئب طويلة، فضحك الآخرون بابتهاج.

هزَّ خالد برأسه مستنكراً هذه الضوضاء وشتمهم. صرخ: «يا شراميط الدفاع المدني!». لكنه كان يبتسم.

راحوا ينشدون أناشيدهم، فيما يصفع سرخاي طبله من دون التقيد بأي ايقاع. كانوا يولولون ويصرخون ويضحكون ويرتجلون أغانٍ هزلية لإغاظة علي:

يا سنكور، مين بتحب ومين بحبك انت؟

انت محبوب الملايين يا سنكور!

رويداً رويداً، ومن وراء هذا المزاح والهرج والمرج كله، من وراء هذه الطاقة الجنسية الشابة الهائلة المكبوتة، سُمِعَت نغمة أكثر حِدَّة، أكثر خشونة وجموح، فصبغت نشيدهم بحزن لا حدود له، بحبٍ مجنون للحياة في آنٍ واحد. تغيرت كلمات الأغنية، فصاروا يطلبون بركة تَحِلُّ على بلادهم المنكوبة، متضرعين الى الله أن يعيد في يوم ما مدارس حلب، مصانعها، حدائقها، وسكانها، مستحضرين أسماء أحيائها المدمرة على إيقاع التحدي المنبثق من الحرب:

الله ينصرك يا حلب!

سيف الدولة وصلاح الدين!

وعلت أصواتهم بالغناء، وضربوا الطبل حتى لم تعد تُسمع الطائرات في سماء حلب.

نوافذ

--

--

Matthieu Aikins
Matter

I’m a contributing writer for the New York Times Magazine, and the author of The Naked Don’t Fear the Water: An Underground Journey with Afghan Refugees.