بيتر هيگز و فرانسوا إنگليرت في حديث جانبي خلال المؤتمر الصحفي في الرابع من يوليو 

جسيم اسمه “البوزون” ٢/٢ 

حنان الشرقي
Physics for All 
7 min readOct 27, 2013

--

كتلة… طاقة … سرعة؟

تخبرنا معادلة آينشتاين E=mc^2 أن الكتلة والطاقة هما وجهان لعملة واحدة ، فأحدهما من الممكن أن يتحول للآخر. وبسبب هذا التقابل يعبر الفيزيائيون عن الكتلة والطاقة لأي جسيم بوحدة القياس نفسها وهي الإلكترون فولت eV وهي كمية الطاقة الكامنة في إليكترون واحد. قوانين الفيزياء أيضا تنص على أن أي جسيم له كتلة لا يمكن تسريعه ليصل إلى سرعة الضوء لأن ذلك يستلزم كمية لا نهائية من الطاقة. فبإمكاننا تزويد أي جسيم بكميات كبير من الطاقة لكن كلما اقتربنا من سرعة الضوء تكون الزيادة الحاصلة في السرعة تكاد لاتذكر مقابل الطاقة الهائلة التي نبذلها للوصول لتلك السرعة. وهذا ما يحصل داخل المصادم، فالبروتونات عند نقطة انطلاقها تنطلق بسرعة تساوي 0.999997828 من سرعة الضوء، ثم بعد كميات مهولة من الطاقة وبعد عشرين دقيقة من الدوران في النفق يتم تسريع شعاع البروتونات لتصل سرعته إلى 0.999999991 من سرعة الضوء وهذا الفرق بين السرعتين يكاد لا يذكر حسب قوانين الفيزياء الكلاسيكية إلا أنه وفي عالم الجسيمات فالأمر مختلف جدا. حتى ينطلق شعاعي البروتونات بسرعة تعادل %99.9999991

من سرعة الضوء فإن سرعتها أو كتلتها — نظرا للتكافؤ حسب المعادلة- تعادل سبعة بليون إليكترون فولت. وللوصول لسرعات مثل هذه يتم تفريغ الأنابيب التي يجري فيها الشعاع لتصبح في حالة فراغ كامل Vacuum.

إن أي جسم متحرك يميل للسير في خط مستقيم فإذا أردت التأثير على مسار جسم منطلق بهذه السرعة الخارقة تحتاج لطاقة ضخمة لتجبره على الانحناء والسير بشكل منحني. بالإضافة إلى الطاقة، تحتاج أيضا لمسافة كافية لتحصل على الانحناء وهذا هو السبب في كون النفق يمتد لمسافة سبع وعشرون كيلومترا كاملة تحت سطح الأرض. للحصول على هذا الانحناء، يحاط النفق بمجال مغناطيسي قوي جدا، صنعت خصيصا لتحقيق هذا الغرض مواد ممغنطة فائقة التوصيل لا تسمح بأي مقاومة أو فقدان للطاقة مما استوجب تبريد المغناطيس إلي درجة حرارة منخفضة جدا، فبينما تنخفض درجة الحرارة المحيطة بأنابيب في النفق لدرجة ‪-271.3C درجة مئوية أي أبرد من درجة حرارة الفضاء الخارجي تصل درجة الحرارة داخل الأنابيب لدرجة حرارة أعلى من درجة حرارة الشمس. لكم أن تتخيلوا درجات الدقة والتقنية المستخدمة لتبريد ستة وثلاثون ألف طن من المغناطيس للوصول إلى درجة حرارة منخفضة بهذا الشكل تعمل باستمرار من العام 2007!

يحيط بالأنابيب التي ينطلق فيها شعاعي البروتونات خمسون نوعا من المغناطيسات، ثم بعد الوصول للسرعة المطلوبة وقبل نقاط الاصطدام يستخدم نوع آخر من المغناطيسات الخاصة لتوجيه الشعاعين بحيث تصطدم الجسيمات في الشعاعين بدقة متناهية. التمعن في تفاصيل التجربة لا يزيد المرء إلا دهشة، فالاصطدام بين البروتونات في الشعاعين يحصل في مدة جزء من 0.00000000000000000000001 من الثانية — اثنان وعشرون صفراً- و لأن الجسيمات متناهية في الصغر فإن الدقة في توجيهيما في مسار الاصطدام مهمة صعبه للغاية مشابهة في دقتها لتوجيه إبرتي خياطة من مسافة عشرة كيلومترات ليصدما في نقطة محددة تماما وجها لوجه! لهذا الغرض كتب جيش من مبرمجي الكمبيوتر مئات الآلاف من سطور البرمجة لمعايرة المغناطيس للحصول على النتائج المطلوبة!

نأتي الآن على ذكر الاحتياجات الحوسبية للمشروع والتي بالطبع تم التخطيط لها بدقة متناهية أيضا. فتصادم البروتونات يولد عددا مهولا من البيانات التي يتم ترقيمها digitized وتسجيلها. ففي العام 1999 تم إطلاق مشروع سمي بشبكة الحوسبة العالمية للمصادم الهايدروني World WideLHC Computing Grid وهي عبارة عن شبكة من الحواسيب متصلة بمركز بيانات سيرن الرئيس لكنها منتشرة في مئة وأربعين مركزا في خمس وثلاثين دولة حول العالم. يتم إرسال بيانات التجارب من المركز الرئيس في سيرن إلى فروع هذه الشبكة لتتم معالجتها هناك ثم مشاركة النتائج لحظيا real time access. حجم البيانات التي تتحرك في هذه الشبكة مهول فمقدار ما يتم تخزينه هو ٢٢ بيتابايت من البيانات سنويا حسب آخر الأرقام -وهذا الرقم يحسب بعد فلترة البيانات وتخزين المهم منها فقط — ومن المعتاد أن تكون كمية البيانات التي تتجول في هذه الشبكة عشرة گيگا في الثانية الواحدة. بسبب كمية البيانات التي يتم توليدها يوميا وبسبب الخبرة التراكمية على مدى عقود، أصبح معهد سيرن رائدا في مجال أبحاث مخازن البيانات الزاخرة * Big Data‪.

سيرن .. المجتمع … والفن

على الرغم من جدية الأبحاث التي تجرى في معهد سيرن إلا أن المعهد لم يكن مجرد برجا عاجيا ينزوي فيه مجموعة من الباحثين بعيدا عن المجتمع، فتمويل المشاريع والمراكز البحثية الضخمة كهذه يعتمد بشكل كبير على الحكومات الأوروبية وبالتالي دافعي الضرائب في تلك الدول يعتبرون شركاء فاعلين. ففي لقاء لريزيو بونا مستشار مدير المعهد صرح أن إشراك المجتمع في ما يجري داخل المعهد هو أحد الأهداف الاستراتيجية التي نسعى إلى تحقيقها، فأبحاث الفيزياء التجريدية المتخصصة كهذه ليس من السهل شرحها وجعلها في متناول فهم الجميع، إلا أننا نحاول جاهدين، فمن الضروري أن يحيط المواطنين بالأثر الاقتصادي و الاجتماعي الذي تحدثه مثل هذه المشاريع الضخمة في مجتمعاتنا ليس فقط على مستوى البحث العلمي بل وحتى على مستوى الوعي الاجتماعي. في العام 2012 قدم معهد سيرن طلب انضمام لعضوية الأمم المتحدة كعضو مراقب والسبب؟ لأن الأمم المتحدة أعلنت أنها ستجعل من التحفيز على تقدم العلوم والتقنية والإبداع هدف استراتيجي من أّهداف الأمم المتحدة ومعهد سيرن يريد أن يلعب دورا فاعلا على هذا الصعيد.

ضمن نفس السياق، معهد سيرن يهتم بشكل خاص بالفنون و يستضيف سنويا فنانين من مختلف مجالات الفنون: الرسامين، الراقصين، الموسيقيين، الممثلين، و أصحاب الفنون الرقمية، ويهدفون من وراء ذلك إلى التحفيز على خلق فضاءات جديدة تنصهر فيها العلوم الطبيعية مع الفنون بكافة أشكالها. بل حتى أن مسابقة فنون سنوية بالتعاون مع سيرن تسمى مسابقة بريكسار جائزتها هي منحة مدفوعة من قبل سيرن، يقضي الفنان الفائز بها مدة ثلاثة أشهر في المعهد، والغرض كما وصفه القائمين على الجائزة: “خلق بيئة تتصادم فيها عقول الباحثين مع خيالات الفنانين لاختراق أبعاد جديدة في الفن”. هنا موقع مختص بنشر بعض الأعمال الفنية التي أنتجت بإيحاء من أبحاث سيرن.

على صعيد تبسيط العلوم والتواصل مع غير المتخصصين، لمعهد سيرن قناة متخصصة على متجر الآيتونز بالإضافة إلى فيديوهات تعليمية ومواد ورسومات للمعلمين وبالطبع ينظم المعهد حدث TEDxCERN الخاص به. المتابع لوسائل الإعلام العالمية خاصة في السنوات الأخيرة يلاحظ أن تجربة الهيگز استحوذت على اهتمام بالغ حتى بين غير المختصين، فكُتبت عنها آلاف العناوين والتدوينات بالإضافة لكمٍ من فيديوهات الهواة التي تسجل تفاصيل طريفة عن الحياة داخل المعهد، فهذا مقطع لباحثين يغنون الراب، و هذا طالب دكتوراه صور مع زملائه فيلما خياليا روائيا مدته ساعة عن مغامرة لمجموعة من العاملين يضلون طريقهم و يحتجزون داخل الأنفاق تحت الأرض. بل حتى أن المعهد له فرقة غنائية ترفيهية مكونة من مجموعة إناث سموا أنفسهن Les Horribles Cernettes أو السيرنيات الفظيعات ولهن قصة طريفة، فعندما أراد مخترع الانترنت السير تِم بينرز-لي تجربة رفع ملف رسوم على الانترنت التقط لهن صورة وهن على المسرح ورفعها فكانت صورتهم التذكارية هذه أول صورة نشرت على الانترنت.

الأبحاث الأساسية … ترف علمي أم ضرورة؟

يعتقد البعض أن عصر التجارب التي يقوم بها حفنة علماء في مختبراتهم الصغيرة قد ولّى، فالأرجح أن الثورات العلمية القادمة والتي ستكون الدافع وراء الازدهار الاقتصادي لمن يملكها، ستولد معظمها في سياق تجارب ضخمة كهذه التي تتطلب تعاون على مستوى دولي.

قد تبدوا أبحاث الفيزياء التجريبية و فيزياء الجسيمات بنظرياتها وتعقيداتها بعيدة عن اهتمامات الأفراد العاديين، فهي تمثل مجال علمي متخصص جدا في مجال العلوم الأساسية أو ما يدعى بال basic science ومن الصعب أن يلامس الغير متخصصين أهميتها على حياتهم، وهذا ما يسبب تململ بين دافعي الضرائب في مثل هذه الدول ويثير الجدل عند الحديث عن ارتفاع تكلفة هذه المشاريع البحثية، فهل من المنطقي أن تنفق ميزانيات ضخمة لإقامة أبحاث على هذا المستوى من التجريد من أجل “ترف علمي”؟ هل مثل هذه الأبحاث تحقق الازدهار الاقتصادي المرجو؟

يمكننا المجادلة بأن الأبحاث في مجال العلوم الأساسية ليست ترفاً بالكلية ، ففيزياء الكم تطورت على يد مجموعة من النابغين أصحاب أفضل العقول التي عرفتها البشرية، إلا أن أحدا من هؤلاء النوابغ لم يكن بوسعه أن يتخيل أن هذا الفضول العلمي البحت والشغف بفك أسرار عالم الذرة، سيؤدي إلى ثورة الاليكترونيات التي يعتمد عليها أكثر من ثلث اقتصاد العالم و التي غيرت عالمنا للأبد.

المتتبع لتاريخ معهد سيرن يجد فيه أمثلة عدة على تقنيات جاءت كنتيجة جانبية للبحث الأساسي، أشهر هذه التقنيات بالطبع هو الإنترنت الذي ولد في سيرن‪.

تقنيات أخرى عديدة ولدت و طورت بالتعاون مع جهات طبية و معلوماتية وصناعية لتستغل تجاريا في مجالات متعددة، والأمثلة كثيرة منها تقنية إشعاعية لعلاج السرطان، الماسح الإشعاعي PET scan المستخدم في المستشفيات، تقنيات المراصد الإليكترونية، وحتى ألواح الطاقة الشمسية. ‪هذه وغيرها من التقنيات كلها تطورت عن محاولة لحل مشكلة واجهها الباحثين أثناء العمل على تجربة في صميم فيزياء الجسيمات الغارقة في النظرية، إلا أن هذه الحلول ُتطوّر لتجد لها استخدامات في مجالات أخرى و تخدم مشكلة تقنية في مكان آخر، وهكذا تتحول العلوم الأساسية إلى تطبيقات لها مردود معرفي واقتصادي.

بالنسبة لنا في الدول العربية حيث لازال الإنفاق على البحث العلمي ضعيفاً ولايرقى إلى مستوى الطموحات، يتحول السؤال لمسألة أولويات: هل من الأولى الإنفاق على الأبحاث التطبيقية في مجالات لها مرود مادي مباشر مثل الهندسة الجينية وعلوم البيئة وأبحاث الطاقة الشمسية، أم الإنفاق على أبحاث العلوم الأساسية و هي تلك الأبحاث التي تهدف إلى تعميق معرفتنا بالعالم من حولنا؟ هل ننفق على أبحاث التقنية ذات المردود الواضح أولاً حتى نصل لمرحلة نستطيع فيها أن ننفق على أبحاث العلوم الأساسية “الترف العلمي” أم أنه لاسبيل للوصول إلى هذه دون المرور على تلك؟ للدكتور نضال قسوم أستاذ الفيزياء وعلوم الفلك مقال مثرٍ يستعرض فيه هذا الجدل من وجهة نظر تخص الدول العربية.

يظل السؤال الجوهري إذا: ما الذي يحقق الازدهار؟ سواء اتفقنا أم اختلفنا على كون الإنفاق على العلوم الأساسية يحقق ذلك أم لا، يظل الانسان مميزا عن بقية المخلوقات بأنه فُطر على الرغبة في فهم العالم من حوله ومحاولة فهم سبر أغوار المجهول سواء كان هذا المجهول داخل عوالم الذرة اللامرئية، أو في أقصى أطراف الكون اللانهائي … وهذا ما يجعل الانسان انساناً.

وأختم بهذه المقولة للمؤلف هارنگتون إيميرسون:

“ليس بالعمل الشاق، ولا بحيازة الأراضي أو رأس المال تصنع الثروات في العصر الحديث .. بل الأفكار. فكرة واحدة تفوق قيمتها عمل جميع البشر والدواب والآلات على مدى قرن من الزمان”

“It is not labor, not capital, not land, that has created modern wealth or is creating it today. It is ideas that create wealth… One single idea may have greater value than all the labor of all the men, animals, and engines for a century” Harrington Emerson

  • *حقوق الترجمة محفوظة للدكتور أشرف فقيه

--

--